سورة البقرة - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


هاد: ألفه منقلبة عن واو، والمضارع يهود، ومعناه: تاب، أو عن ياء والمضارع يهيد، إذا تحرك. والأولى الأول لقوله تعالى: {إنا هدنا إليك} وسيأتي الكلام على لفظه اليهود حيث انتهينا إليها في القرآن، إن شاء الله تعالى. والنصارى: جمع نصران ونصرانه، مثل ندمان وندمانة. قال سيبويه وأنشد:
وكلتاهما خرت وأسجد رأسها *** كما سجدت نصرانة لم تحنف
وأنشد الطبري:
يظل إذا دار العشي محنفا *** ويضحى لديه وهو نصران شامس
منع نصرانا الصرف ضرورة، وهو مصروف لأن مؤنثه على نصرانه. قال سيبويه: إلا أنه لا يستعمل في الكلام إلا بياء النسب، فيكون: كلحيان ولحياني وكأحمري. وقال الخليل: واحد النصارى نصرى، كمهرى ومهاري. قيل: وهو منسوب إلى نصرة، قرية نزل بها عيسى. وقال قتادة: نسبوا إلى ناصرة، وهي قرية نزلوها. فعلى هذا يكون من تغييرات النسب. والصابئين: الصائبون، قيل: الخارجون من دين مشهور إلى غيره، من صبوء السن والنجم، يقال: صبأت النجوم: طلعت، وصبأت ثنية الغلام: خرجت، وصبأت على القوم بمعنى: طرأت، قال:
إذا صبأت هوادي الخيل عنا *** حسبت بنحرها شرق البعير
ومن قرأ بغير همز فسنتكلم على قراءته. قال الحسن والسدي: هم بين اليهود والمجوس. وقال قتادة: والكلبي: هم بين اليهود والنصارى، يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبون مذاكيرهم. وقال الخليل: هم أشباه النصارى، قبلتهم مهب الجنوب، يقرون بنوح، ويقرؤون الزبور، ويعبدون الملائكة. وقال عبد العزيز بن يحيى: لا عين منهم ولا أثر. وقال المغربي، عن الصابي صاحب الرسائل: هم قريب من المعتزلة، يقولون بتدبير الكواكب. وقال مجاهد: هم قوم لا دين لهم، ليسوا بيهود ولا نصارى. قال ابن أبي نجيح: قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم. وقال ابن زيد: قوم يقولون لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب، كانوا بالجزيرة والموصل. وروي عن الحسن وقتادة أيضاً أنهم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون الخمس للقبلة، ويقرؤون الزبور، رآهم زياد بن أبي سفيان، فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة. وقال ابن عباس: هم قوم من اليهود والنصارى، لا تحل مناكحتهم ولا تؤكل ذبائحهم. وقال أبو العالية: قوم من أهل الكتاب، ذبائحهم كذبائح أهل الكتاب، يقرؤون الزبر، ويخالفونهم في بقية أفعالهم. وقال الحسن والحكم: قوم كالمجوس. وقيل: قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم، وأنها فعالة. وأفتى أبو سعيد الأصطخري القادر بالله حين سأله عنهم بكفرهم. وقيل: قوم يعبدون الكواكب، ثم لهم قولان: أحدهما: أن خالق العالم هو الله، إلا أنه أمر بتعظيم الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والتعظيم والدعاء. الثاني: أنه تعالى خلق الأفلاك والكواكب، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم، ثم إنها تعبد الله، وهذا المذهب هو المنسوب للذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم.
الأجر: مصدر أجر بأجر، ويطلق على المأجور به، وهو الثواب. والأجور: جبر كسر معوج، والأجار: السطح، قال الشاعر:
تبدو هواديها من الغبار *** كالجيش الصف على الأجار
الرفع: معروف، وهو أعلى الشيء، والفعل منه رفع يرفع، الطور: اسم لكل جبل، قال مجاهد وعكرمة وقتادة. أو الجبل المنبت دون غير المنبت، قاله ابن عباس والضحاك، أو الجبل الذي ناجى الله عليه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقال العجاج:
دانى جناحيه من الطور فر *** تقضي البازي إذا البازي كسر
وقال آخر:
وإن تر سلمى الجن يستأنسوا بها *** وإن ير سلمى صاحب الطور ينزل
وأصله الناحية، ومنه طوار الدار. وقال مجاهد: هو جنس الجبل بالسريانية. القوة: الشدّة، وهي مصدر قوي يقوى، وطيء تقول: قوي، يفتحون العين والتاء مفتوحة فتنقلب ألفاً، يقولون في بقي: بقى، وفي زهي: زها، وقد يوجد ذلك في لغة غيرهم. قال علقمة بن عبدة التميمي:
زها الشوق حتى ظل إنسان عينه *** يفيض بمغمور من الدمع متأف
وهذه المادة قليلة، وهي أن تكون العين واللام واوين. التولي: الإعراض بعد الإقبال. لولا: للتحضيض بمنزلة هلا، فيليها الفعل ظاهراً أو مضمراً، وحرف امتناع لوجود فيكون لها جواب، ويجيء بعدها اسم مرفوع بها عند الفراء، وبفعل محذوف عند الكسائي، وبالابتداء عند البصريين، والخبر محذوف عند جمهورهم، وعند بعضهم فيه تفصيل ذكرناه في (منهج السالك) من تأليفنا، وليست جملة الجواب الخبر، خلافاً لأبي الحسين بن الطراوة، وإن وقع بعدها مضمر فيكون ضمير رفع مبتدأ عند البصريين، ويجوز أن يقع بعدها ضمير الجرّ فتقول: لولاني ولولاك ولولاه، إلى آخرها، وهو في موضع جر بلولا عند سيبويه، وفي موضع رفع عند الأخفش، استعير ضمير الجر للرفع، كما استعاروا ضمير الرفع للجر في قولهم: ما أنا كانت، ولا أنت كانا. والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. ومن ذهب إلى أن لولا نافية، وجعل من ذلك {فلولا كانت قرية آمنت}، فبعيد قوله عن الصواب. السبت: اسم ليوم معلوم، وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع، أو من السبات، وهو الدعة والراحة، وقال أبو الفرج بن الجوزي: هذا خطأ لا يعرف في كلام العرب سبت بمعنى استراح، والسبت: الحلق والسير، قال الشاعر:
بمقوّرة الألياط أمّا نهارها *** فسبت وأمّا ليلها فذميل
والسبت: النعل، لأنه يقطع كالطحن والرعي. قال ابن جريج: سمي يوم السبت لأنه قطعة زمان، قال لبيد:
وغنيت سبتاً قبل مجرى داحس *** لو كان للنفس اللحوح خلود
القرد: معروف، ويجمع فعل الاسم قياساً على فعول نحو: قرد وقرود، وجسم وجسوم، وقليلاً على فعلة نحو: قرد وقردة، وحسل وحسلة.
الخسء: الصغار والطرد، والفعل: خسأ، ويكون لازماً ومتعدّياً، يقال: خسأ الكلب خسوا: ذل وبعد، وخسأته: طردته وأبعدته، خسأ: كرجع رجوعاً، ورجعته رجعاً. النكال: العبرة، وأصله المنع، والنكل: القيد. وقال مقاتل: النكال: العقوبة اليد: عضو معروف أصله يدي، وقد صرّح بهذا الأصل، وقد أبدلوا ياءه همزة قالوا: قطع الله أديه: يريدون يديه، وجمعت على أفعل، قالوا: أيد، أصله: أيدي، وقد استعملت للنعمة والإحسان. وأما الأيادي فهو في الحقيقة جمع جمع، واستعماله في النعمة أكثر من استعماله للجارحة، كما أن استعمال الأيدي في الجارحة أكثر منه في النعمة. خلف: ظرف مكان مبهم، وهو متوسط التصرف، ويكون أيضاً وصفاً، يقال رجل خلف: بمعنى رديء، وسكت ألفاً ونطق خلفاً: أي نطقاً رديئاً. موعظة: مفعلة، من الوعظ، والوعظ: الإذكار بالخير بما يرق له القلب، وكسر عين الكلمة فيما كان على هذا الوزن وعلى مفعل هو القياس، وقد شذ: موءلة وكلم، ذكرها النحويون جاءت مفتوحة العين.
قوله تعالى: {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا} الآية. نزلت في أصحاب سلمان، وذلك أنه صحب عباداً من النصارى، فقال له أحدهم: إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فآمن به. ورأى منهم عبادة عظيمة، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر له خبرهم وسأله عنهم، فنزلت هذه الآية، حكى هذه القصة مطوّلة ابن إسحاق والطبري والبيهقي. وروي عن ابن عباس أنها نزلت في أوّل الإسلام، وقدر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، فله أجره، ثم نسخ ما قدر من ذلك بقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} وردّت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال غير ابن عباس: ليست بمنسوخة، وهي فيمن ثبت على إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم. وروى الواحدي، بإسناد متصل إلى مجاهد، قال: لما قص سلمان على النبي صلى الله عليه وسلم قصة أصحابه، وقال له هم في النار، قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، فنزلت إلى {يحزنون}، قال: فكأنما كشف عني جبل.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر الكفرة من أهل الكتاب، وما حل بهم من العقوبة، أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم، دالاً على أنه يجزي كلاً بفعله، والذين آمنوا منافقوا هذه الأمّة، أي آمنوا ظاهراً، ولهذا قرنهم بمن ذكر بعدهم، ثم بين حكم من آمن ظاهراً وباطناً، قاله سفيان الثوري أو المؤمنون بالرسول. ومن آمن: معناه من داوم على إيمانه، وفي سائر الفرق: من دخل فيه، أو الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول: كزيد بن عمرو بن نفيل، وقيس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، ومن لحقه: كأبي ذر، وسلمان، وبحيرا.
ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون المبعث، فمنهم من أدرك وتابع، ومنهم من لم يدركه، والذين هادوا كذلك، ممن لم يلحق إلا من كفر بعيسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والنصارى كذلك، والصابئين كذلك، قاله السدّي أو أصحاب سلمان، وقد سبق حديثهم، أو المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول، قاله ابن عباس، أو المؤمنون بموسى، وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى فآمنوا به وعملوا بشريعته، إلى أن جاء محمد، قاله السدي عن أشياخه، أو مؤمنوا الأمم الخالية، أو المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله من سائر الأمم. فهذه ثمانية أقوال في المعنى بالذين آمنوا والذين هادوا وهم اليهود.
وقرأ الجمهور: هادوا بضم الدال. وقرأ أبو السماك العدوي: بفتحها من المهاداة، قيل: أي مال بعضهم إلى بعض، فالقراءة الأولى مادتها هاء وواو ودال، أو هاء وياء ودال، والقراءة الثانية مادتها هاء ودال وياء، ويكون فاعل من الهداية، وجاء فيه فاعل موافقة فعل، كأنه قيل: والذين هدوا، أي هدوا أنفسهم نحو: جاوزت الشيء بمعنى جزته. {والنصارى}: الألف للتأنيث، ولذلك منع الصرف في قوله: {الذين قالوا إنا نصارى} وهذا البناء، أعني فعالى، جاء مقصوراً جمعاً، وجاء ممدوداً مفرداً، وألفه للتأنيث أيضاً نحو: براكاء. وقرأ الجمهور: والصابئين مهموزاً، وكذا والصابئون، وتقدم معنى صبأ المهموز. وقرأ نافع: بغير همز، فيحتمل وجهين أظهرهما أن يكون من صبأ: بمعنى مال، ومنه قول الشاعر:
إلى هند صبا قلبي *** وهند مثلها يصبي
والوجه الآخر يكون أصله الهمز، فسهل بقلب الهمز ألفاً في الفعل وياء في الاسم، كما قال الشاعر:
إن السباع لتهدي في مرابضها *** والناس ليس بهاد شرهم أبداً
وقال الآخر:
وكنت أذل من وتد بقاع *** يشجج رأسه بالفهرواج
وقال آخر:
فارعى فزارة لا هناك المرتع ***
إلا أن قلب الهمزة ألفاً يحفظ ولا يقاس عليه. وأما قلب الهمزة ياء فبابه الشعر، فلذلك كان الوجه الأول أظهر. وذكر بعض المفسرين مسائل من أحكام اليهود والنصارى. {والصابئين}: لا يدل عليها لفظ القرآن هنا، فلم يذكرها، وموضعها كتب الفقه..
{من آمن بالله واليوم الآخر}، من: مبتدأة، ويحتمل أن تكون شرطية، فالخبر الفعل بعدها، وإذا كانت موصولة، فالخبر قوله: {فلهم أجرهم}، ودخلت الفاء في الخبر، لأن المبتدأ الموصول قد استوفى شروط جواز دخول الفاء في الخبر، وقد تقدم ذكرها. واتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله: {من آمن} في موضع خبر إن إذا كان من مبتدأ، وإن الرابط محذوف تقديره: من آمن منهم، ولا يتم ما قالوه إلا على تغاير الإيمانين، أعني: الذي هو صلة الذين، والذي هو صلة من، إما في التعليق، أو في الزمان، أو في الإنشاء والاستدامة.
وأما إذا لم يتغايرا، فلا يتم ذلك، لأنه يصير المعنى: إن الذين آمنوا: من آمن منهم، ومن كانوا مؤمنين، لايقال: من آمن منهم إلا على التغاير بين الإيمانين. وذهب بعض الناس إلى أن ذلك على الحذف، وأن التقدير: {إن الذين آمنوا لهم أجرهم عند ربهم}، {والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن منهم}، أي من الأصناف الثلاثة، فلهم أجرهم، وذلك لما لم يصلح أن يكون عنده من آمن خبراً عن الذين آمنوا، ومن بعدهم. ومن أعرب من مبتدأ، فإنما جعلها شرطية. وقد ذكرنا جواز كونها موصولة، وأعربوا أيضاً من بدلاً، فتكون منصوبة موصولة. قالوا: وهي بدل من اسم إن وما بعده، ولا يتم ذلك أيضاً إلا على تقدير تغاير الإيمانين، كما ذكرنا، إذا كانت مبتدأة. والذي نختاره أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن، فيصح إذ ذاك المعنى، وكأنه قيل: إن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة، ومن آمن من الأصناف الثلاثة، فلهم أجرهم. ودخلت الفاء في الخبر، لأن الموصول ضمن معنى الشرط، ولم يعتد بدخول إن على الموصول، وذلك جائز في كلام العرب، ولا مبالاة بمن خالف في ذلك. ومن زعم أن من آمن معطوف على ما قبله، وحذف منه حرف العطف، التقدير: ومن آمن بالله فقوله بعيد عن الصواب، ولا حاجة تدعو إلى ذلك، وقد اندرج في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالرسل، إذ البعث لا يعرف إلا من جهة الرسل.
{وعمل صالحاً}: هو عام في جميع أفعال الصلاح وأقوالها وأداء الفرائض، أو التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم أقوال. الثاني يروى عن ابن عباس، وقد حمل الصلة أو فعل الشرط والمعطوف على لفظ من، فأفرد الضمير في آمن وعمل ثم قال: {فلهم أجرهم} إلى آخر الآية، فجمع حملاً على المعنى. وهذان الحملان لا يتمان إلا بإعراب من مبتدأ، وأما على إعراب من بدلاً، فليس فيه إلا حمل على اللفظ فقط. وللحمل على اللفظ والمعنى قيود ذكرت في النحو. قال أبو محمد بن عطية: وإذا جرى ما بعد على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى، وإذا جرى ما بعدها على المعنى، لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ، لأن الإلباس يدخل في الكلام. انتهى كلامه. وليس كما ذكر، بل يجوز إذا راعيت المعنى أن تراعي اللفظ بعد ذلك. لكنّ الكوفيين يشترطون الفصل في الجمع بين هذه الحملين فيقولون: من يقومون في غير شيء، وينظر في أمورنا قومك والبصريون لا يشترطون ذلك، وهذا على ما قرر في علم العربية:
تروى الأحاديث عن كل مسامحة *** وإنما لمعانيها معانيها
وأجرهم: مرفوع بالابتداء، ولهم في موضع الخبر. وعند الأخفش والكوفيين: إن أجرهم مرفوع بالجار والمجرور. {عند ربهم}: ظرف يعمل فيه الاستقرار الذي هو عامل في لهم، ويحتمل أن ينتصب على الحال، والعامل فيه محذوف تقديره: كائناً عند ربهم.
وقرأ الجمهور: {ولا خوف}، بالرفع والتنوين. وقرأ الحسن: ولا خوف، من غير تنوين. وقد تقدم الكلام على قوله: {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} في آخر قصة آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأغنى عن إعادته هنا.
ومناسبة ختم هذه الآية بها ظاهره، لأن من استقر أجره عند ربه لا يلحقه حزن على ما مضى، ولا خوف على ما يستقبل. قال القشيري: اختلاف الطرق مع اتحاذ الأصل لا يمنع من حسن القبول، فمن صدق الله تعالى في إيمانه، وآمن بما أخبر به من حقه وصفاته، فاختلاف وقوع الاسم غير قادح في استحقاق الرضوان.
{وإذ أخذنا ميثاقكم}: هذا هو الإنعام العاشر، لأنه إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم، وتقدّم الكلام في لفظة الميثاق في قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} والميثاق: ما أودعه الله تعالى العقول من الدلائل على وجوده وقدرته وحكمته وصدق أنبيائه ورسله، أو المأخوذ على ذرية آدم في قوله: {ألست بربكم قالوا بلى}، أو إلزام الناس متابعة الأنبياء، أو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو العهد منهم ليعملنّ بما في التوراة، فلما جاء موسى قرأوا ما فيها من التثقيل فامتنعوا من أخذها، أو قوله: {لا تعبدون إلا الله} أقوال ستة. قال القفال: قال ميثاقكم ولم يقل مواثيقكم، لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم، كقوله: {ثم يخرجكم طفلاً} أو لأن ما أخذه على واحد منهم، أخذه على غيره، فكان ميثاقاً واحداً، ولو جمع لاحتمل التغاير. انتهى كلامه ملخصاً.
{ورفعنا فوقكم الطور}: سبب رفعه امتناعهم من دخول الأرض المقدّسة، أو من السجود، أو من أخذ التوراة والتزمها. أقوال ثلاثة. روي أن موسى لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا، إلا أن يكلمنا الله بها، كما كلمك، فصعقوا ثم أحيوا. فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا. فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم، وأضرم ناراً بين أيديهم، فاحتاط بهم غضبه، فقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، وغرقكم البحر، وأحرقتكم النار، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق، وسجدوا على شق لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفاً. فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها، فأمروا سجودهم على شق واحد. وذكر الثعلبي أن ارتفاع الجبل فوق رؤوسهم كان مقدار قامة الرجل، ولم تدل الآية على هذا السجود الذي ذكر في هذه القصة. والواو في قوله: ورفعنا، واو العطف: على تفسير ابن عباس، لأن أخذ الميثاق كان متقدّماً، فلما نقضوه بالامتناع من قبول الكتاب رفع عليهم الطور.
وأما على تفسير أبي مسلم: فإنها واو الحال، أي إن أخذ الميثاق كان في حال رفع الطور فوقهم، نحو قوله تعالى: {ونادى نوح ابنه وكان في معزل} أي وقد كان في معزل.
{خذوا ما آتيناكم}: هو على إضمار القول، أي: وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم. وقال بعض الكوفيين: لا يحتاج إلى إضمار قول، لأن أخذ الميثاق هو قول، والمعنى: وإذا أخذنا ميثاقكم بأن خذوا ما آتيناكم، وما موصول، والعائد عليه محذوف، أي: ما آتيناكموه، ويعني به الكتاب. يدل على ذلك قوله: {واذكروا ما فيه}، وقرئ: ما آتيتكم، وهو شبه التفات، لأنه خرج من ضمير المعظم نفسه إلى غيره. ومعنى قوله: {بقوة} بجدّ واجتهاد، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي، أو بعمل، قاله مجاهد؛ أو بصدق وحق، قاله ابن زيد؛ أو بقبول، قاله ابن بحر؛ أو بطاعة، قاله أبو العالية والربيع؛ أو بنية وإخلاص، أو بكثرة درس ودراية؛ أو بجدّ وعزيمة ورغبة وعمل؛ أو بقدرة. والقوة: القدرة والاستطاعة. وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، والباء للحال أو الاستعانة.
{واذكروا ما فيه}. قرأ الجمهور: به أمراً من ذكر، وقرأ أبيّ: واذكروا ما فيه: أمراً من اذكر، وأصله: وإذتكروا، ثم أبدل من التاء دال، ثم أدغم الذال في الدال، إذ أكثر الإدغام يستحيل فيه الأول إلى الثاني، ويجوز في هذا أن يستحيل الثاني إلى الأول، ويدغم فيه الأول فيقال: اذكر، ويجوز الإظهار فتقول: إذ ذكر. وقرأ ابن مسعود: تذكروا، على أنه مضارع انجزم على جواب الأمر الذي هو خذوا. فعلى القراءتين قيل: هذا يكون أمراً بالادكار، وعلى هذه القراءة يكون الذكر مترتباً على حصول الأخذ بقوة، أي أن تأخذوا بقوّة تذكروا ما فيه. وذكر الزمخشري أنه قرئ: وتذكروا أمراً من التذكر، ولا يبعد عندي أن تكون هذه القراءة هي قراءة ابن مسعود، ووهم الذي نقلناه من كتابه تذكروا في إسقاط الواو، والذي فيه هو ما تضمنه من الثواب، قاله ابن عباس؛ أو احفظوا ما فيه ولا تنسوه وادرسوه، قاله الزجاج؛ أو ما فيه من أمر الله ونهيه وصفة محمد صلى الله عليه وسلم، أو اتعظوا به لتنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى. والذكر: قد يكون اللسان، وقد يكون بالقلب على ما سبق، وقد يكون بهما. فباللسان معناه: ادرسوا، وبالقلب معناه: تدبروا، وبهما معناه: ادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه. أو أريد بالذكر: ثمرته، وهو العمل، فمعناه: اعملوا بما فيه من الأحكام والشرائع. والضمير في فيه يعود على ما. وقال في المنتخب: لا يحمل على نفس الذكر، لأن الذكر الذي هو ضدّ النسيان من فعل الله تعالى، فكيف يجوز الأمر به؟ انتهى.
{لعلكم تتقون}: أي رجاء أن يحصل لكم التقوى بذكر ما فيه. وقيل: معناه لعلكم تنزعون عما أنتم فيه. والذي يفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وفعلوا مقتضاه، يدل على ذلك: {ثم توليتم من بعد ذلك}. فهذا يدل على القبول والالتزام لما أمروا به. وفي بعض القصص أنهم قالوا، لما زال الجبل: يا موسى، سمعنا وأطعنا، ولولا الجبل ما أطعناك. وفي بعض القصص: فآمنوا كرهاً، وظاهر هذا الإلجاء. والمختار عند أهل العلم أن الله تعالى خلق لهم الإيمان والطاعة في قلوبهم وقت السجود، حتى كان إيمانهم طوعاً لا كرهاً.
{ثم توليتم من بعد ذلك}: أي أعرضتم عن الميثاق والعمل بما فيه، وأصل التولي: أن يكون بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات، اتساعاً ومجازاً. ودخول ثم مشعر بالمهلة، ومن تشعر بابتداء الغاية. لكن بين الجملتين كلام محذوف، التقدير، والله أعلم: فأخذتم ما آتيناكم، وذكرتم ما فيه، وعملتم بمقتضاه. فلا بدّ من ارتكاب مجاز في مدلول من، وأنه لسرعة التولي منهم واجتماعهم عليه، كأنه ما تخلل بين ما أمروا به وبين التولي شيء. وقد علم أنهم بعدما قبلوا التوراة، تولوا عنها بأمور، فحرّفوها، وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بالله، وعصوا أمره. ومن ذلك ما اختص به بعضهم، وما عمله أوائلهم، وما عمله أواخرهم. ولم يزالوا في التيه، مع مشاهدتهم الأعاجيب، يخالفون موسى، ويظاهرون بالمعاصي في عسكرهم، حتى خسف ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأون بها، ثم فعل ساحروهمم ما لا خفاء به، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله، والقرآن، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة. فالجملة معروفة، وذلك إخبار من الله عن أسلافهم. فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وحالهم في كتابه ما ذكر. والإشارة بذلك في قوله: {من بعد ذلك} إلى قبول ما أوتوه، أو إلى أخذ الميثاق والوفاء به، ورفع الجبل، أو خروج موسى من بينهم، أو الإيمان، أقوال.
{فلولا فضل الله عليكم ورحمته}، الفضل: الإسلام، والرحمة: القرآن، قاله أبو العالية. أو الفضل: قبول التوبة، والرحمة: العفو عن الزلة، أو الفضل: التوفيق للتوبة، والرحمة: القبول. أو الفضل والرحمة، فأخبر الله عنهم. أو الفضل والرحمة: بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدراكهم لمدته. وعلى هذا القول يكون من تلوين الخطاب، إذ صار هذا عائداً على الحاضرين. والأقوال قبله تدل على أن المخاطب به من سلف، لأنه جاء في سياق قصتهم. وفضل الله على مذهب البصريين مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: موجود، وما يشبهه مما يليق بالموضع. وعليكم: متعلق بفضل، أو معمول له، فلا يكون في موضع الخبر.
والتقدير: {فولا فضل الله عليكم ورحمته} موجودان، {لكنتم}: جواب لولا. والأكثر أنه إذا كان مثبتاً تدخله اللام، ولم يجئ في القرآن مثبتاً إلا باللام، إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى: {وهم بها} جواب: لولا قدم فإنه لا لام معه. وقد جاء في كلام العرب بغير لام، وبعض النحويين يخص ذلك بالشعر، قال الشاعر:
لولا الحياء ولولا الدين عبتكما *** ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وقد جاء في كلامهم بعد اللام، قد، قال الشاعر:
لولا الأمير ولولا حق طاعته *** لقد شربت دماً أحلى من العسل
وقد جاء في كلامهم أيضاً حذف اللام وإبقاء قد نحو: لولا زيد قد أكرمتك. {من الخاسرين}: تقدّم أن الخسران: هو النقصان، ومعناه من الهالكين في الدنيا والأخرى. ويحتمل أن يكون كان هنا بمعنى: صار. قال القشيري: أخذ سبحانه ميثاق المكلفين، ولكنّ قوماً أجابوه طوعاً، لأنه تعرّف إليهم، فوحدوه، وقوماً أجابوه كرهاً، لأنه ستر عليهم، فجحدوه. ولا حجة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور، ولكن عدموا نور البصيرة، فلم ينفعهم عيان البصر. قال تعالى: {ثم توليتم}، أي رجعتم إلى العصيان، بعد مشاهدتكم الإيمان بالعيان، ولولا حكمه بإمهاله، وحكمه بإفضاله، لعاجلكم بالعقوبة، ولحلّ بكم عظيم المصيبة.
وقال بعض أهل اللطائف: كانت نفوس بني إسرائيل، من ظلمات عصيانها، تخبط في عشواء حالكة الجلباب، وتخطر، من غلوائها وعلوّها، في حلتي كبر وإعجاب. فلما أمروا بأخذ التوراة، ورأوا ما فيها من أثقال التكاليف، ثارت نفوسهم الآبية، فرفع الله عليهم الجبل، فوجدوه أثقل مما كلفوه، فهان عليهم حمل التوراة مع ما فيها من التكليف والنصب، إذ ذاك أهون من الهلاك، قال الشاعر:
إلى الله يدعى بالبراهين من أبى *** فإن لم يجب نادته بيض الصوارم
{ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت} اللام في لقد: هي لام توكيد، وتسمى: لام الابتداء في نحو: لزيد قائم. ومن أحكامها: أن ما كان في حيزها لا يتقدّم عليها، إلا إذا دخلت على خبر إن على ما قرر في النحو. وقد صنف بعض النحويين كتاباً في اللامات ذكرها فيه وأحكامها. ويحتمل أن تكون جواباً لقسم محذوف، ولكنه جيء على سبيل التوكيد، لأن مثل هذه القصة يمكن أن يبهتوا في إنكارها، وذلك لما نال في عقبى أولئك المعتدين من مسخهم قردة، فاحتيج في ذلك إلى توكيد، وأنهم علموا ذلك حقيقة. وعلم هنا كعرف، فلذلك تعدّت إلى واحد. وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين، وقدّره بعضهم: علمتم أحكام الذين، وقدّره بعضهم: اعتداء الذين. والاعتداء كان على ما نقل من أن موسى أمره الله بصوم يوم الجمعة، وعرّفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء، فذكر ذلك لبني إسرائيل، وأمرهم بالتشرّع فيه، فأبوه وتعدّوه إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى: أن دعهم وما اختاروه.
وامتحنهم فيه، بأن أمرهم بترك العمل، وحرّم عليهم فيه صيد الحيتان. فكانت تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية، قاله الحسن بن أبي الحسن، وقيل: حتى تخرج خراطيمها من الماء، وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان، فلم يظهروا للسبت الآخر. فبقوا على ذلك زماناً حتى اشتهوا الحوت، فعمد رجل يوم السبت، فربط حوتاً بخزمة، وضرب له وتداً بالساحل. فلما ذهب السبت، جاء فأخذه فسمع قوم بفعله، فصنعوا مثل ما صنع، وقيل: بل حفر رجل في غير السبت حفيراً يخرج إليه البحر، فإذا كان يوم السبت، خرج الحوت وحصل في الحفيرة، فإذا جزر البحر، ذهب الماء من طريق الحفيرة وبقي الحوت، فجاء بعد السبت فأخذه. ففعل قوم مثل فعله. وكثر ذلك، حتى صادوه يوم السبت علانية وباعوه في الأسواق. فكان هذا من أعظم الاعتداء. وقد رويت زيادات في كيفية الاعتداء، الله أعلم بصحة ذلك. والذي يصح في ذلك هو ما ذكره الله في كتابه، وما صح عن نبيه.
منكم: في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف تقديره: كائنين منكم، ومن: للتبعيض. في السبت: متعلق باعتدوا، إما على إضمار يوم، أو حكم. والحامل على الاعتداء قيل: الشيطان وسوس لهم وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، ولم تنهوا عن حبسها، فأطاعوه، ففعلوا ذلك. وقيل: لما فعل ذلك بعضهم، ولم يعجل له عقوبة، وتشبه به أناس منهم، وفعلوا لفعله، ظنوا أن السبت قد أبيح لهم، فتمالأ على ذلك جمع كبير، فأصابهم ما أصابهم. وقيل: أقدموا على ذلك متأولين، لأنه أمرهم بترك العمل يوم السبت، وقالوا: إنما نهانا الله عن أسباب الاكتساب التي تشغلنا عن العبادة، ولم ينهنا عن العمل اليسير. وقيل: فعل ذلك أوباشهم تحرياً وعصياناً، فعم الله الجميع بالعذاب.
{فقلنا لهم كونوا}: أمر من الكون وليس بأمر حقيقة، لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم، لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم قردة، بل المراد منه سرعة الكون على هذا الوصف، كقوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} ومجازه: أنه لما أراد منهم ذلك صاروا كذلك. وظاهر القرآن مسخهم قردة. وقيل: لم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كما قال تعالى: {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} قاله مجاهد. وقيل: مسخت قلوبهم حتى صارت كقلوب القردة، لا تقبل وعظاً ولا تعي زجراً، وهو محكي عن مجاهد أيضاً. والقول الأول هو قول الجمهور، ويجوز أن يبقي الله لهم فهم الإنسانية بعد صيرورتهم قردة: وروي في بعض قصصهم: أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم فيقول له: ألم أنهك؟ فيقول له برأسه: بلى، وتسيل دموعه على خده، ولم يتعرض في هذا المسخ شيء منهم خنازير.
وروي عن قتادة: أن الشباب صاروا قردة، واليوخ صاروا خنازير، وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم. وروي في قصصهم: أن الله تعالى مسخ العاصين قردة بالليل، فأصبح الناجون إلى مساجدهم ومجتمعاتهم، فلم يروا أحداً من الهالكين، فقالوا: إن للناس لشأناً، ففتحوا عليهم الأبواب، كما كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم قردة يعرفون الرجل والمرأة. وقيل: إن الناجين قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار تبرياً منهم، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين، فتسوروا عليهم الجدار، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض. قال قتادة: وصاروا قردة تعاوي، لها أذناب، بعدما كانوا رجالاً ونساء.
{قردة خاسئين}: كلاهما خبر كان، والمعنى: أنهم يكونون قد جمعوا بين القردة والخسوء. ويجوز أن يكون خاسئين صفة لقردة، ويجوز أن يكون حالاً من اسم كونوا. ومعنى خاسئين: مبعدين. وقال أبو روق: خاسرين، كأنه فسر باللازم، لأن من أبعده الله فقد خسر. وجمهور المفسرين: على أن الذين مسخهم الله لم يأكلوا، ولم يشربوا، ولم ينسلوا، بل ماتوا جميعاً، وأنهم لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام. وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام، وماتوا في اليوم الثامن، وكان هذا في زمن داود، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وكانوا في قرية يقال لها: أيلة، وقيل: مدين. وروى مسلم، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ؟ فقال: «الله لم يهلك قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً، وأن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك». واختار القاضي أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا، وأن القردة الموجودين الآن من نسلهم. {فجعلناها}: الضمير عائد على القرية أو على الأمة، أو على الحالة، أو على المسخة، أو على الحيتان، أو على العقوبة. والذي يظهر أن الضمير عائد على المصدر المفهوم من: كونوا، أي فجعلنا كينونتهم قردة خاسئين. {نكالاً}: أي عبرة، وهو مفعول ثانٍ لجعل.
{لما بين يديها وما خلفها}: أي من القرى، والضمير للقرية، قاله عكرمة عن ابن عباس، أو لمن بعدهم من الأمم. وما خلفها: أي الذين كانوا معهم باقين، رواه الضحاك عن ابن عباس. أو ما بين يديها: أي ما دونها، وما خلفها يعني: لمن يأتي بعدهم من الأمم. والضمير للأمة، قاله السدي. أو ما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها للحيتان التي أصابوا، قاله قتادة. أو لما بين يديها: ما مضى من خطاياهم التي أهلكوا بها، قاله مجاهد. أو لما بين يديها ممن شاهدها، وما خلفها ممن لم يشاهدها، قاله قطرب. أو ما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب.
أو لما بين يديها: من حضرها من الناجين، وما خلفها ممن يجيء بعدها. أو لما بين يديها من عقوبة الآخرة، وما خلفها في دنياهم، فيذكرون بها إلى قيام الساعة. أو لما بين يديها: لما حولها من القرى، وما خلفها: وما يحدث بعدها من القرى التي لم تكن، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين، فاعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين. أو في الآية تقديم وتأخير، أي فجعلناها وما خلفها مما أعد لهم في الآخرة من العذاب، نكالاً وجزاء، لا لما بين يديها، أي لما تقدّم من ذنوبهم لاعتدائهم في السبت. فهذه أحد عشر قولاً. قال بعضهم: والأقرب للصواب قول من قال: ما بين يديها: من يأتي من الأمم بعدها. وما خلفها: من بقي منهم ومن غيرهم لم تنلهم العقوبة، ومن قال الضمير عائد على القرية، فالمراد أهلها.
{وموعضة للمتقين}: خص المتقين لأنهم الذين ينتفعون بالعظة والتذكير، قال تعالى: {فإن الذكرى تنفع المؤمنين} {إنما أنت منذر من يخشاها} وقيل: أراد نكالاً لبني إسرائيل، وموعظة للمتقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: المتقون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي عن أشياخه. وقيل: اللفظ عام في كل متق من كل أمة، قاله ابن عباس. وقيل: الذين نهوا ونجوا.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة التسوية بين مؤمني اليهود والنصارى والصابئين، ومؤمني غيرهم في كينونة الأجر لهم، وأن ذلك عند من يراهم، وأن إيمانهم في الدنيا أنتج لهم الأمن في الآخرة، فلا خوف مما يستقبل، ولا حزن على ما فات إذ من استقر له أجره عند ربه فقد بلغ الغاية القصوى من الكرامة. وقد أدخل هذه الآية بين قصص بني إسرائيل ليبين أن الفوز إنما هو لمن أطاع. وصارت هذه الآية بين آيتي عقاب: إحداهما تتضمن ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل، والأخرى تتضمن ما عوقبوا به من نتق الجبل فوقهم، وأخذ الميثاق، ثم توليهم بعد ذلك. فأعلمت هذه الآية بحسنى عاقبة من آمن، حتى من هذا الجنس الذي عوقب بهاتين العقوبتين، ترغيباً في الإيمان، وتيسيراً للدخول في أشرف الأديان، وتبييناً أن الإسلام يجبّ ما قبله، وأن طاعة الله تجلب إحسانه وفضله.
وتضمن قوله {وإذ أخذنا ميثاقكم} التذكير بالميثاق الذي أخذ عليهم، وأنه كان يجب الوفاء به، وأنه رفع الطور فوقهم لأن يتوبوا ويرجوا، وأنهم مع مشاهدتهم هذا الخارق العظيم تولوا وأعرضوا عن قبول الحق، وأنه لولا أن تداركهم بفضله ورحمته لخسروا. ثم أخذ يذكرهم ما هو في طي علمهم من عقوبة العاصين، ومآل اعتداء المعتدين، وأنه باستمرار العصيان والاعتداء في إباحة ما حظره الرحمن، يعاقب بخروج العاصي من طور الإنسانية إلى طور القردية، فبينا هو يفرح بجعله من ذوي الألباب، ويمرح ملتذاً بدلال الخطاب، نسخ اسمه من ديوان الكمال، ونسخ شكله إلى أقبح مثال، هذا مع أعد له في الآخرة من النكال، والعقوبات على الجرائم جارية على المقدار، ناشئة عن إرادة الملك القهار، ليست مما تدرك بالقياس، فيخوص في تعيينها ألباب الناس، ومثل هذه العقوبة تكون تنبيهاً للغافل، عظة للعاقل.


البقرة: الأنثى من هذا الحيوان المعروف، وقد يقع على الذكر. والباقر والبقير والبيقور والباقور، قالوا: وإنما سميت بقرة لأنها تبقر الأرض، أي تشقها للحرث، ومنه سمي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: الباقر. وكان هو وأخوه زيد بن علي من العلماء الفصحاء. العياذ والمعاذ: الاعتصام. الفعل منه: عاذ يعوذ. الجهل: معروف، والفعل منه: جهل يجهل، قيل: وقد جمع على أجهال، وهو شاذ.
قال الشنفري:
ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا أرى *** سؤولاً بأطراف الأقاويل أنمل
ويحتمل أن يكون جمع جاهل، كأصحاب: جمع صاحب. الفارض: المسن التي انقطعت ولادتها من الكبر. يقال: فرضت وفرضت تفرض، بفتح العين في الماضي وضمها، والمصدر فروض، والفرض: القطع، قال الشاعر:
كميت بهيم اللون ليس بفارض *** ولا بعوان ذات لون مخصف
ويقال لكل ما قدم وطال أمره: فارض، قال الشاعر:
يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض *** له قروء كقروء الحائض
وكأنّ المسن سميت فارضاً لأنها فرضت سنها، أي قطعتها وبلغت آخرها، قال خفاف بن ندبة:
لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضاً *** تساق إليه ما تقوم على رجل
ولم تعطه بكراً فيرضى سمينه *** فكيف تجازى بالمودة والفضل
البكر: الصغيرة التي لم تلد من الصغر، وقال ابن قتيبة: التي ولدت ولداً واحداً. والبكر من النساء: التي لم يمسها الرجل، وقال ابن قتيبة: هي التي لم تحمل. والبكر من الأولاد: الأول، ومن الحاجات: الأولى.
قال الراجز:
يا بكر بكرين ويا خلب الكبد *** أصبحت مني كذراع من عضد
والبكر، بفتح الباء: الفتى من الإبل، والأنثى: بكرة، وأصله من التقدم في الزمان، ومنه البكرة والباكورة. والعوان: النصف، وهي التي ولدت بطناً أو بطنين، وقيل: التي ولدت مرة. وقالت العرب: العوان لا تعلم الخمرة، ويقال: عونت المرأة، وحرب عوان، وهي التي قوتل فيها مرة بعد مرة، وجمع على فعل: قالوا عون، وهو القياس في المعتل من فعأل، ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر، منه:
وفي الأكف اللامعات سور ***
بين: ظرف مكان متوسط التصرف، تقول: هو بعيد بين المنكبين، ونقي بين الحاجبين. قال تعالى: {هذا فراق بيني وبينك}، ودخولها إذا كانت ظرفاً: {بين ما تمكن البينية فيه}، والمال بين زيد وبين عمرو، ومسموع من كلامهم، وينتقل من المكانية إلى الزمانية إذا لحقتها ما، أو الألف، فيزول عنها الاختصاص بالأسماء، فيليها إذ ذاك الجملة الإسمية والفعلية، وربما أضيفت بيناً إلى المصدر. ولبين في علم الكوفيين باب معقود كبير. اللون: معروف، وجمعه على القياس ألوان. واللون: النوع، ومنه ألوان الطعام: أنواعه. وقالوا: فلان متلوّن: إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد، ومنه: يتلوّن تلوّن الحرباء، وذلك أن الحرباء، لصفاء جسمها، أي لون قابلته ظهر عليها، فتنقلب من لون إلى لون.
الصفرة: لون معروف، وقياس الفعل من هذا المصدر: صفر، فهو أصفر، وهي صفراء، كقولهم: شهب: فهو أشهب، وهي شهباء. الفقوع: أشدّ ما يكون من الصفرة وأبلغه، يقال: أصفر فاقع ووارس، وأسود حالك وحايك، وأبيض نقق ولمق، وأحمر قاني وزنجي، وأخضر ناضر ومدهام، وأزرق خطباني وأرمك رداني. السرور: لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رائق. وقال قوم: السرور والفرح والحبور والجذل نظائر، ونقيض السرور: الغم. الذلول: الريض الذي زالت صعوبته، يقال: دابة ذلول: بينة الذل، بكسر الذال، ورجل ذليل: بين الذل بضم الذال، والفعل: ذل يذل. الإثارة: الاستخراج والقلقلة من مكان إلى مكان، وقال امرؤ القيس:
يهيل ويذري تربها ويثيره *** إثارة نباش الهواجر مخمس
وقال النابغة:
يثرن الحصى حتى يباشرن تربه *** إذا الشمس مجت ريقها بالكلاكل
الحرث: مصدر حرث يحرث، وهو شق الأرض ليبذر فيها الحب، ويطلق على ما حرث وزرع، وهو مجاز في: {نساؤكم حرث لكم} والحرث: الزرع، والحرث: الكسب، والحرائث: الإبل، الواحدة حريثة. وفي الحديث أصدق الأسماء الحارث، لأن الحارث هو الكاسب، واحتراث المال: اكتسابه. المسلَّمة المخلصة المبرأة من العيوب، سلم له كذا: أي خلص، سلاماً وسلامة مثل: اللذاذ واللذاذة. الشية: مصدر وشى الثوب، يشيه وشياً وشية: حسنه وزينه بخطوط مختلفة الألوان، ومنه قيل للساعي في الإفساد بين الناس: واشٍ، لأنه يحسن كذبه عندهم حتى يقبل، والشية: اللمعة المخالفة للون، ومنه ثور موشى القوائم، قال الشاعر:
من وحش وجرة موشى أكارعه *** طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
الآن: ظرف زمان، حضر جميعه أو بعضه، والألف واللام فيه للحضور. وقيل: زائدة، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة. وزعم الفراء أنه منقول من الفعل، يقال: آن يئين أيناً: أي حان. الدّر: الدفع، ويدرأ عنها العذاب. وقال الشاعر:
فنكب عنهم درء الأعادي ***
وادّار: تفاعل منه، ولمصدره حكم يخالف مصادر الأفعال التي أوّلها همزة وصل ذكر في النحو. القساوة: غلظ القلب وصلابته. يقال: قسا يقسو قسواً وقسوة وقساوة، وقسا وجسا وعساً متقاربة. الشق، أن يجعل الشيء شقين، وتشقق منه. الخشية: الخوف مع تعظم المخشي. يقال: خشي يخشى. الغفلة والسهو والنسيان متقاربة. يقال منه: غفل يغفل، ومكان غفل لم يعلم به.
{وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} الآية. وجد قتيل في بني إسرائيل اسمه عاميل، ولم يدروا قاتله، واختلفوا فيه وفي سبب قتله. فقال عطاء والسدّي: كان القاتل ابن عم المقتول، وكان مسكيناً، والمقتول كثير المال. وقيل: كان أخاه، وقيل: ابن أخيه، ولا وارث له غيره، فلما طال عليه عمره قتله ليرثه.
وقال عطاء أيضاً: كان تحت عاميل بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال، فقتله لينكحها. وطوّل المفسرون في هذه الحكاية بما يوقف عليه في كتبهم. والذي سأل موسى البيان هو القاتل، قاله أبو العالية. وقال غيره: بل اجتمع القوم فسألوا موسى، ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه تقدم ذكر مخالفتهم لأنبيائهم وتكذيبهم لهم في أكثر أنبائهم، فناسب ذلك ذكر هذه الآية لما تضمنت من المراجعة والتعنت والعناد مرة بعد مرّة. وقوله: {وإذ قال} معطوف على قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم} وقوم موسى أتباعه وأشياعه. وقرأ الجمهور: يأمركم، بضم الراء، وعن أبي عمرو: والسكون والاختلاس وإبدال الهمزة ألفاً، وقد تقدم توجيه ذلك عند الكلام على بارئكم ويأمركم بصيغة المضارع، فيحتمل أن يراد به الحال، ويحتمل أن يراد به الماضي إن كان الأمر بذبح البقرة بما أنزل الله في التوراة، أو بما أخبر موسى، وأن تذبحوا في موضع المفعول الثاني ليأمر، وهو على إسقاط الحرف، أي بأن تذبحوا. ولحذف هنا مسوّغان: أحدهما: أنه يجوز فيه، إذا كان المفعول متأثراً بحرف الجر، أن يحذف الحرف، كما قال:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ***
والثاني: كونه مع إن، وهو يجوز معها حذف حرف الجر إذا لم يلبس. ودلالة الكلام على أن المأمور به أن تذبحوا بقرة، فأي بقرة كانت لو ذبحوها لكان يقع الامتثال. وقد روى الحسن مرفوعاً، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدّد الله عليهم» وإنما اختص البقر من سائر الحيوانات لأنهم كانوا يعظمون البقر ويعبدونها من دون الله، فاختبروا بذلك، إذ هذا من الابتلاء العظيم، وهو أن يؤمر الإنسان بقتل من يحبه ويعظمه، أو لأنه أراد تعالى أن يصل الخير للغلام الذي كان بارًّا بأمّه. وقال طلحة بن مصرّف: لم تكن من بقر الدنيا، بل نزلت من السماء. وقال بعض أهل العلم: البقر سيد الحيوانات الأنسية.
وقرأ: {أتتخدنا}؟ الجمهور: بالتاء، على أن الضمير هو لموسى. وقرأ عاصم الجحدري وابن محيصن بالياء، على أن الضمير لله تعالى، وهو استفهام على سبيل الإنكار. {هزواً}، قرأ حمزة، وإسماعيل، وخلف في اختياره، والقزاز، عن عبد الوارث والمفضل، بإسكان الزاي. وقرأ حفص: بضم الزاي والواو بدل الهمز. وقرأ الباقون: بضم الزاي والهمزة، وفيه ثلاث لغات التي قرئ بها، وانتصابه على أنه مفعول ثان لقوله: {أتتخذنا هزواً}، فإما أن يريد به اسم المفعول، أي مهزوأ، كقوله: درهم ضرب الأمير، وهذا خلق الله، أو يكون أخبروا به على سبيل المبالغة، أي أتتخذنا نفس الهزؤ، وذلك لكثرة الاستهزاء ممن يكون جاهلاً، أو على حذف مضاف، أي مكان هزء، أو ذوي هزء، وإجابتهم نبيهم حين أخبرهم عن أمر الله بأن يذبحوا بقرة، بقولهم: {أتتخذنا هزواً} دليل على سوء عقيدتهم في نبيهم وتكذيبهم له، إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى، لما كان جوابهم إلا امتثال الأمر، وجوابهم هذا كفر بموسى.
وقال بعض الناس: كانوا مؤمنين مصدقين، ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية. والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى تعيين القاتل فقال لهم: {إن الله يأمركم أن تذبحوا}، رأوا تباين ما بين السؤال والجواب وبعده، فتوهموا أن موسى داعبهم، وقد لا يكون أخبرهم في ذلك الوقت بأن القتيل يضرب ببعض البقرة المذبوحة فيحيا ويخبر بمن قتله، أو يكون أخبرهم بذلك، فتعجبوا من إحياء ميت ببعض ميت، فظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء. وقيل: في الكلام محذوف تقديره: آلله أمرك أن تتخذنا هزواً؟ وقيل: هو استفهام حقيقة ليس فيه إنكار، وهو استفهام استرشاد لا استفهام إنكار وعناد.
{قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين}، لما فهم موسى عليه السلام عنهم أن تلك المقالة التي صدرت عنهم إنما هي لاعتقادهم فيها أنه أخبر عن الله بما لم يأمر به، استعاذ بالله وهو الذي أخبر عنه، أن يكون من الجاهلين بالله، فيخبر عنه بأمر لم يأمر به تعالى، إذ الإخبار عن الله تعالى بما لم يخبر به الله إنما يكون ذلك من الجهل بالله تعالى. وقوله: من الجاهلين، فيه تصريح أن ثم جاهلين، واستعاذ بالله أن يكون منهم، وفيه تعريض أنهم جاهلون، وكأنه قال: أن أكون منكم، لأنهم جوّزوا على من هو معصوم من الكذب، وخصوصاً في التبليغ، عن الله أن يخبر عن الله بالكذب. قالوا: والجهل بسيط، ومركب البسيط: عام وخاص. العام: عدم العلم بشيء من المعلومات، والخاص: عدم العلم ببعض المعلومات، والمركب: أن يجهل، ويجهل أنه يجهل. فالعام والمركب لا يوصف بهما من له بعض علم، فضلاً عن نبي شرف بالرسالة والتكليم، وذلك مستحيل عليه، فيستحيل أن يستعيذ منه إلا على سبيل الأدب. فالذي استعاذ منه موسى هو خاص، وهو المفضي إلى أن يخبر عن الله تعالى مستهزئاً، أو المقابل لجهلهم. فقالوا: أتتخذنا هزواً لمن يخبرهم عن الله، أو معناه الاستهزاء بالمؤمنين. فإن ذلك جهل، أو من الجاهلين بالجواب، لا على وفق السؤال، إذ ذاك جهل، والأمر من تلقاء نفسي، وأنسبه إلى الله، والخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء، فإن ذلك جهل. وهذه الوجوه الستة مستحيلة على موسى. قيل: وإنما استعاذ منها بطريق الأدب، كما استعاذ نوح عليه السلام {أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لي به علم} وكما في: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين}، وإنما قالوا ذلك بطريق الأدب مع الله والتواضع له.
{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي}، لما قال لهم موسى: {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين}، وعلموا أن ما أخبرهم به موسى من أمر الله إياهم بذبح البقرة كان عزيمة وطلباً، جاز ما قالوا له ذلك، وهذا القول أيضاً فيه تعنيت منهم وقلة طواعية، إذ لو امتثلوا فذبحوا بقرة، لكانوا قد أتوا بالمأمور، ولكن شدّدوا، فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. وكسر العين من ادع لغة بني عامر، وقد سبق ذكر ذلك في {فادع لنا ربك يخرج لنا} وجزم يبين على جواب الأمر. وما هي: مبتدأ وخبر. وقرأ عبد الله: سل لنا ربك يبين ما هي، ومفعول يبين: هي الجملة من المبتدأ والخبر، والفعل معلق، لأن معنى يبين لنا يعلمنا ما هي، لأن التبيين يلزمه الإعلام، والضمير في هي عائد على البقرة السابق ذكرها، وكأنهم قالوا: يبين لنا ما البقرة التي أمرنا بذبحها، ولم يريدوا تبيين ماهية البقرة، وإنما هو سؤال عن الوصف، فيكون على حذف مضاف، التقدير: ما صفتها؟ ولذلك أجيبوا بالوصف، وهو قوله: {لا فارض ولا بكر}. وإنما سألوا على طريق التعنت، كما قدّمناه، أو على طريق التعجب من بقرة ميتة يضرب بها ميت فيحيا، إذ ذاك في غاية الاستغراب والخروج عن المألوف، أو على طريق أنهم ظنوا قوله: {أن تذبحوا بقرة} من باب المجمل، فسألوا تبيين ذلك، إذ تبين المجمل واجب، أو على رجاء أن ينسخ عنهم تكليف الذبح، لثقل ذلك عليهم، لكونهم لم يعلموا المعنى الذي لأجله أمروا بذلك. وتقدّم معنى قولهم: {أدع لنا ربك}، كيف خصوا لفظ الربّ مضافاً إلى موسى، وذلك لما علموا له عند الله من الخصوصية والمنزلة الرفيعة. وقيل: إنما سألوا موسى استرشاداً لا عناداً، إذ لو كان عناداً لكفروا به وعجلت عقوبتهم، كما عجلت في قولهم: {أرنا الله جهرة}، وفي عبادتهم العجل، وفي امتناعهم من قبول التوراة، وقولهم: {اذهب أنت وربك فقاتلا} وفي الكلام حذف تقديره: فدعا موسى ربه فأجابه.
{قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر}: صفة لبقرة، والصفة إذا كانت منفية بلا، وجب تكرارها، كما قال:
وفتيان صدق لا ضعاف ولا عزل ***
فإن جاءت غير مكرّرة، فبابها الشعر، ومن جعل ذلك من الوصف بالمجمل، فقدر مبتدأ محذوفاً، أي {لا هي فارض ولا بكر}، فقد أبعد، لأن الأصل الوصف بالمفرد، والأصل أن لا حذف. {عوان}: تفسير لما تضمنه قوله: {لا فارض ولا بكر}. {بين ذلك}: يقتضي بين أن تكون تدخل على ما يمكن التثنية فيه، ولم يأت بعدها إلا اسم إشارة مفرد، فقيل: أشير بذلك إلى مفرد، فكأنه قيل: عوان بين ما ذكر، فصورته صورة المفرد، وهو في المعنى مثنى، لأن تثنية اسم الإشارة وجمعه ليس تثنية ولا جمعاً حقيقة، بل كان القياس يقتضي أن يكون اسم الإشارة لا يثني ولا يجمع ولا يؤنث، قالوا: وقد أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة، قال رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق
قيل له: كيف تقول كأنه؟ وهلا قلت: كأنها، فيعود على الخطوط، أو كأنهما، فيعود على السواد والبلق؟ فقال: أردت كان ذاك، وقال لبيد:
إن للخير وللشرّ مدى *** وكلا ذلك وجه وقبل
قيل: أراد وكلا ذينك، فأطلق المفرد وأراد به المثنى، فيحتمل أن تكون الآية من ذلك، فيكون أطلق ذلك ويريد به ذينك، وهذا مجمل غير الأوّل. والذي أذهب إليه غير ما ذكروا، وهو أن يكون ذلك مما حذف منه المعطوف، لدلالة المعنى عليه، التقدير: عوان بين ذلك وهذا، أي بين الفارض والبكر، فيكون نظير قول الشاعر:
فما كان بين الخير لو جاء سالما *** أبو حجر إلا ليال قلائل
أي: فما كان بين الخير وباغيه، فحذف لفهم المعنى: {سرابيل تقيكم الحرّ} أي والبرد. وإنما جعلت عواناً لأنه أكمل أحوالها، فالصغيرة ناقصة لتجاوزها حالته. {فافعلوا ما تؤمرون}: أي من ذبح البقرة، ولا تكرروا السؤال، ولا تعنتوا في أمر ما أمرتم بذبحه. ويحتمل أن تكون هذه الجملة من قول الله، ويحتمل أن تكون من قول موسى، وهو الأظهر. حرّضهم على امتثال ما أمروا به، شفقة منه. وما موصولة، والعائد محذوف تقديره: ما تؤمرونه، وحذف الفاعل للعلم به، إذ تقدّم أن الله يأمركم، ولتناسب أواخر الآي، كما قصد تناسب الإعراب في أواخر الأبيات في قوله:
ولا بدّ يوماً أن تردّ الودائع ***
إذ آخر البيت الذي قبل هذا قوله:
وما يدرون أين المصارع ***
وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية، أي: فافعلوا أمركم، ويكون المصدر بمعنى المفعول، أي مأموركم، وفيه بعد {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها} لما تعَرّفوا سنّ هذه، شرعوا في تعرف لونها، وذلك كله يدل على نقص فطرهم وعقولهم، إذ قد تقدّم أمران: أمر الله لهم بذبح بقرة، وأمر المبلغ عن الله، الناصح لهم، المشفق عليهم، بقوله: {فافعلوا ما تؤمرون}، ومع ذلك لم يرتدعوا عن السؤال عن لونها، والقول في: {ادع لنا ربك}، وفي جزم: {يبين}، وفي الجملة المستفهم بها والمحذوف بعده سبق نظيره في الآية قبله، فأغنى عن ذكره. {قال إنه يقول إنها بقرة صفراء}: قال الجمهور: هو اللون المعروف: ولذلك أكد بالفقوع والسرور، فهي صفراء حتى القرن والظلف، وقال الحسن وأبو عبيدة: عنى به هنا السواد، قال الشاعر:
وصفراء ليست بمصفرّة *** ولكن سوداء مثل الحمم
وقال سعيد بن جبير: صفراء القرن والظلف خاصة. {فاقع}: أي شديد الصفرة، قاله ابن عباس والحسن؛ أو الخالص الصفرة، قاله قطرب، أو الصافي، قاله أبو العالية وقتادة.
{لونها}: ذكروا في إعرابه وجوهاً: أحدها: أنا فاعل مرفوع بفاقع، وفاقع صفة للبقرة. الثاني: أنه مبتدأ وخبره فاقع. والثالث: أنه مبتدأ، و{تسرّ الناظرين} خبر. وأنث على أحد معنيين: أحدهما: لكونه أضيف إلى مؤنث، كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه. والثاني: أنه يراد به المؤنث، إذ هو الصفرة، فكأنه قال: صفرتها تسر الناظرين، فحمل على المعنى كقولهم: جاءته كتابي فاحتقرها، على معنى الصحيفة والوجه الإعراب الأوّل، لأن إعراب لونها مبتدأ، وفاقع خبر مقدّم لا يجيزه الكوفيون، أو تسرّ الناظرين خبره، فيه تأنيث الخبر، ويحتاج إلى تأويل، كما قررناه. وكون لونها فاعلاً بفاقع جار على نظم الكلام، ولا يحتاج إلى تقديم، ولا تأخير، ولا تأويل، ولم يؤنث فاقعاً وإن كان صفة لمؤنث، لأنه رفع السبى، وهو مذكر فصار نحو: جاءتني امرأة حسن أبوها، ولا يصح هنا أن يكون تابعاً لصفراء على سبيل التوكيد، لأنه يلزم المطابقة، إذ ذاك للمتبوع. ألا ترى أنك تقول أسود حالك، وسوداء حالكة، ولا يجوز سوداء حالك؟ فأمّا قوله:
وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعاً *** كأن ذكي المسك فيها يفتق
فبابه الشعر، إذا كان وجه الكلام صفراء فاقعة، وجاء {صفراء فاقع لونها}، ولم يكتف بقوله: صفراء فاقعة، لأنه أراد تأكيد نسبة الصفرة، فحكم عليها أنها صفراء، ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة، فابتدأ أوّلاً بوصف البقرة بالصفرة، ثم أكد ذلك بوصف اللون بها، فكأنه قال: هي صفراء، ولونها شديد الصفرة. فقد اختلفت جهتا تعلق الصفرة لفظاً، إذ تعلقت أوّلاً بالذات، ثم ثانياً بالعرض الذي هو اللون، واختلف المتعلق أيضاً، لأن مطلق الصفرة مخالف لشديد الصفرة، ومع هذا الاختلاف الظاهر فلا يحتاج ذلك إلى التوكيد. قال الزمخشري: فإن قلت، فهلا قيل: صفراء فاقعة؟ وأي فائدة في ذلك اللون؟ قلت: الفائدة فيه التوكيد، لأن اللون اسم للهيئة، وهي الصفرة، فكأنه قيل: شديد الصفرة صفرتها، فهو من قولك: جد جده، وجنونك جنون. اه كلامه. وقال وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
{تسرّ الناظرين}: أي تبهج الناظرين إليها من سمنها ومنظرها ولونها. وهذه الجملة صفة للبقرة، وقد تقدّم قول من جعلها خبراً، كقوله: لونها، وفيه تكلف قد ذكرناه. وجاء هذا الوصف بالفعل، ولم يجيء باسم الفاعل، لأن الفعل يشعر بالحدوث والتجدّد. ولما كان لونها من الأشياء الثابتة التي لا تتجدّد، جاء الوصف به بالاسم لا بالفعل، وتأخر هذا الوصف عن الوصف قبله، لأنه ناشئ عن الوصف قبله، أو كالناشئ، لأن اللون إذا كان بهجاً جميلاً، دهشت فيه الأبصار، وعجبت من حسنه البصائر، وجاء بوصف الجمع في الناظرين، ليوضح أن أعين الناس طامحة إليها، متلذذة فيها بالنظر. فليست مما تعجب شخصاً دون شخص، ولذلك أدخل الألف واللام التي تدل على الاستغراق، أي هي بصدد من نظر إليها سرّ بها، وإن كان النظر هنا من نظر القلب، وهو الفكر، فيكون السرور قد حصل من التفكر في بدائع صنع الله، من تحسين لونها وتكميل خلقها.
والضمير في تسرّ عائد على البقرة، على تقدير أن تسرّ صفة، وإن كان خبراً، فهو عائد على اللون الذي تسر خبر عنه. وقد تقدّم توجيه التأنيث، ولذلك من قرأ يسرّ بالياء، فهو عائد على اللون، فيحتمل أن يكون لونها مبتدأ، ويسر خبراً، ويكون فاقعاً صفة تابعة لصفراء، على حد هذا البيت الذي أنشدناه وهو:
وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعاً ***
على قلة ذلك ويحتمل أن يكون لونها فاعلاً بفاقع، ويسر إخبار مستأنف. وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة، ولهذا كان علي كرم الله وجهه، يرغب في النعال الصفر. وقال ابن عباس: الصفرة تبسط النفس وتذهب الهم، وكان ابن عباس أيضاً يحض على لبس النعال الصفر. ونهى ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لأنها تهم.
{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي}، قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ري الظمآن وجه الاشتباه عليهم، إن كل بقرة لا تصلح عندهم أن تكون آية، لما علموا من ناقة صالح وما كان فيها من العجائب، فظنوا أن الحيوان لا يكون آية إلا إذا كان على ذلك الأسلوب، وذلك لما نبؤا أنها آية، سألوا عن ماهيتها وكيفيتها، ولذلك لم يسألوا موسى عن ذلك، بل سألوه أن يسأل الله لهم عن ذلك، إذ الله تعالى هو العالم بالآيات، وإنما سألوا عن التعيين، وإن كان اللفظ مقتضاه الإطلاق، لأنهم لو عملوا بمطلقه لم يحصل التقصي عن الأمر بيقين. انتهى كلامه. وقال غيره: لما لم يمكن التماثل من كل وجه، وحصل الاشتباه، ساغ لهم السؤال، فأخبروا بسنها، فوجدوا مثلها في السن كثيراً، فسألوا عن اللون، فأخبروا بذلك، فلم يزل اللبس بذلك، فسألوا عن العمل، فأخبروا بذلك، وعن بعض أوصافها الخاص بها، فزال اللبس بتبيين السن واللون والعمل وبعض الأوصاف، إذ وجود بقر كثير على هذه الأوصاف يندر، فهذا هو السبب الذي جرأهم على تكرار السؤال: {قالوا ادعُ لنا ربك يبين لنا ما هي}، تقدم الكلام على هذه الجملة.
{إن البقر تشابه علينا}: هذا تعليل لتكرار هذا السؤال إلى أن الحامل على استقصاء أوصاف هذه البقرة، وهو تشابهها علينا، فإنه كثير من البقر يماثلها في السن واللون. وقرأ عكرمة ويحيى بن يعمر: إن الباقر، وقد تقدم أنه اسم جمع، قال الشاعر:
ما لي رأيتك بعد عهدك موحشاً *** خلقاً كحوض الباقر المتهدم
وقرأ الجمهور: تشابه، جعلوه فعلاً ماضياً على وزن تفاعل، مسند الضمير البقر، على أن البقر مذكر.
وقرأ الحسن: تشابه، بضم الهاء، جعله مضارعاً محذوف التاء، وماضيه تشابه، وفيه ضمير يعود على البقر، على أن البقر مؤنث. وقرأ الأعرج: كذلك، إلا أنه شدّد الشين، جعله مضارعاً وماضيه تشابه، أصله: تتشابه، فأدغم، وفيه ضمير يعود على البقر. وروي أيضاً عن الحسن، وقرأ محمد المعيطي، المعروف بذي الشامة: تشبه علينا. وقرأ مجاهد: تشبه، جعله ماضياً على تفعل. وقرأ ابن مسعود: يشابه، بالياء وتشديد الشين، جعله مضارعاً من تفاعل، ولكنه أدغم التاء في الشين. وقرئ: متشبه، اسم فاعل من تشبه. وقرأ بعضهم: يتشابه، مضارع تشابه، وفيه ضمير يعود على البقر. وقرأ أُبي: تشابهت. وقرأ الأعمش: متشابه ومتشابهة. وقرأ ابن أبي إسحاق: تشابهت، بتشديد الشين مع كونه فعلاً ماضياً، وبتاء التأنيث آخره. فهذه اثنا عشر قراءة. وتوجيه هذه القراءات ظاهر، إلا قراءة ابن أبي إسحاق تشابهت، فقال بعض الناس: لا وجه لها. وتبيين ما قاله: إن تشديد الشين إنما يكون بإدغام التاء فيها، والماضي لا يكون فيه تاءان، فتبقى إحداهما وتدغم الأخرى. ويمكن أن توجه هذه القراءة على أن أصله: اشابهت، والتاء هي تاء البقرة، وأصله أن البقرة اشابهت علينا، ويقوي ذلك لحاق تاء التأنيث في آخر الفعل، أو اشابهت أصله: تشابهت، فأدغمت التاء في الشين واجتلبت همزة الوصل. فحين أدرج ابن أبي إسحاق القراءة، صار اللفظ: أن البقرة اشابهت، فظن السامع أن تاء البقرة هي تاء في الفعل، إذ النطق واحد، فتوهم أنه قرأ: تشابهت، وهذا لا يظن بابن أبي إسحاق، فإنه رأس في علم النحو، وممن أخذ النحو عن أصحاب أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو. وقد كان ابن أبي إسحاق يزري على العرب وعلى من يستشهد بكلامهم، كالفرزدق، إذا جاء في شعرهم ما ليس بالمشهور في كلام العرب، فكيف يقرأ قراءة لا وجه لها، وإن البقر تعليل للسؤال، كما تقول: أكرم زيداً إنه عالم، فالحامل لهم على السؤال هو حصول تشابه البقر عليهم.
{وإنا إن شاء الله لمهتدون}: أي لمهتدون إلى عين البقرة المأمور بذبحها، أو إلى ما خفي من أمر القاتل، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا بذبح البقرة. وفي تعليق هدايتهم بمشيئة الله إنابة وانقياد ودلالة على ندمهم على ترك موافقة الأمر. وقد جاء في الحديث: «ولو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد». وجواب هذا الشرط محذوف يدل عليه مضمون الجملة، أي إن شاء الله اهتدينا، وإذ حذف الجواب كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ ومنفياً بلم، وقياس الشرط الذي حذف جوابه أن يتأخر عن الدليل على الجواب، فكان الترتيب أن يقال في الكلام: إن زيداً لقائم إن شاء الله، أي: إن شاء الله فهو قائم، لكنه توسط هنا بين اسم إن وخبرها، ليحصل توافق رؤوس الآي، وللاهتمام بتعليق الهداية بمشيئة الله، وجاء خبر إن اسماً، لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم، وأكد بحر في التأكيد إن واللام، ولم يأتوا بهذا الشرط إلا على سبيل الأدب مع الله تعالى، إذ أخبروا بثبوت الهداية لهم.
وأكدوا تلك النسبة، ولو كان تعليقاً محضاً لما احتيج إلى تأكيد، ولكنه على قول القائل: أنا صانع كذا إن شاء الله، وهو متلبس بالصنع، فذكر إن شاء الله على طريق الأدب. قال الماتريدي: إن قوم موسى، مع غلظ أفهامهم وقلة عقولهم، كانوا أعرف بالله وأكمل توحيداً من المعتزلة، لأنهم قالوا: {وإنا إن شاء الله لمهتدون}، والمعتزلة يقولون: قد شاء الله أن يهتدوا، وهم شاؤوا أن لا يهتدوا، فغلبت مشيئتهم مشيئة الله تعالى، حيث كان الأمر على: ما شاؤوا إلا كما شاء الله تعالى، فتكون الآية حجة لنا على المعتزلة. انتهى كلامه.
{قال إنه يقول إنها بقرة} الكلام على هذا كالكلام على نظيره. {لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث}، لا ذلول؛ صفة للبقرة، على أنه من الوصف بالمفرد، ومن قال هو من الوصف بالجملة، وأن التقدير: لا هي ذلول، فبعيد عن الصواب. وتثير الأرض: صفة لذلول، وهي صلة داخلة في حيز النفي، والمقصود نفي إثارتها الأرض، أي لا تثير فتذل، فهو من باب:
على لاحب لا يهتدي بمناره..... اللفظ نفي الذل، والمقصود نفي الإثارة، فينتفي كونها ذلولاً. ولا تسقي الحرث: نفي معادل لقوله: لا ذلول. والجملة صفة، والصفتان منفيتان من حيث المعنى، كما أن لا تسقي منفي من حيث المعنى أيضاً. ومعنى الكلام: أنها لم تذلل بالعمل، لا في حرث، ولا في سقي، ولهذا نفي عنها إثارة الأرض وسقيها. وقال الحسن: كانت تلك البقرة وحشية، ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض بالحرث، ولا يسنى عليها فتسقى. وقد ذهب قوم إلى أن قوله: تثير الأرض، فعل مثبت لفظاً ومعنى، وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها، ونفى عنها سقي الحرث. وردّ هذا القول من حيث المعنى، لأن ما كان يحرث لا ينتفي كونه ذلولاً.
وقال بعض المفسرين: معنى تثير الأرض بغير الحرث بطراً ومرحاً، ومن عادة البقر، إذا بطرت، تضرب بقرنها وأظلافها، فتثير تراب الأرض، وينعقد عليه الغبار، فيكون هذا المعنى من تمام قوله: لا ذلول، لأن وصفها بالمرح والبطر دليل على أنها لا ذلول. قال الزمخشري: لا ذلول، صفة لبقرة بمعنى: بقرة غير ذلول، يعني: لم تذلل للحرث وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها بسقي الحروث. ولا: الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية.
انتهى كلامه. ووافقه على جعل لا الثانية مزيدة صاحب المنتخب، وما ذهبا إليه ليس بشيء، لأن قوله: لا ذلول، صفة منفية بلا، وإذا كان الوصف قد نفي بلا، لزم تكرار لا النافية، لما دخلت عليه، تقول مررت برجل لا كريم ولا شجاع، وقال تعالى: {ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب} {وظل من يحموم لا بارد ولا كريم} {لا فارض ولا بكر}، ولا يجوز أن تأتي بغير تكرار، لأن المستفاد منها النفي، إلا إن ورد في ضرورة الشعر، وإذا آل تقديرهما إلى لا ذلول مثيرة وساقية، كان غير جائز لما ذكرناه من وجوب تكرار لا النافية، وعلى ما قدراه كان نظير: جاءني رجل لا كريم، وذلك لا يجوز إلا إن ورد في شعر، كما نبهنا عليه. قال ابن عطية: ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في وضع الحال لأنها من نكرة. انتهى كلامه.
والجملة التي أشار إليها هي قوله: تثير الأرض، والنكرة هي قوله: لا ذلول، أو قوله: بقرة، فإن عنى بالنكرة بقرة، فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازاً حسناً، وإن عنى بالنكرة لا ذلول، فهو قول الجمهور ممن لم يحصل مذهب سيبويه، ولا أمعن النظر في كتابه، بل قد أجاز سيبويه في كتابه، في مواضع مجيء الحال من النكرة، وإن لم توصف، وإن كان الاتباع هو الوجه والأحسن، قال سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة، وقد يجوز نصبه على نصب: هذا رجل منطلقاً، يريد على الحال من النكرة، ثم قال: وهو قول عيسى، ثم قال: وزعم الخليل أن هذا جائز، ونصبه كنصبه في المعرفة جعله حالاً، ولم يجعله صفة، ومثل ذلك: مررت برجل قائماً، إذا جعلت المرور به في حال قيام، وقد يجوز على هذا: فيها رجل قائماً، ومثل ذلك: عليه مائة بيضاء، والرفع الوجه، وعليه مائة ديناً، الرفع الوجه، وزعم يونس أن ناساً من العرب يقولون: مررت بماء قعدة رجل، والوجه الجر، وكذلك قال سيبويه في باب ما ينتصب، لأنه قبيح أن يكون صفة فقال: راقود خلا وعليك نحى سمناً، وقال في باب نعم، فإذا قلت لي عسل ملء جرة، وعليه دين شعر كلبين، فالوجه الرفع، لأنه صفة، والنصب يجوز كنصبه، عليه مائة بيضاء، فهذه نصوص سيبويه، ولو كان ذلك غير جائز، كما قال ابن عطية، لما قاسه سيبويه، لأن غير الجائز لا يقال به فضلاً عن أن يقاس، وإن كان الاتباع للنكرة أحسن، وإنما امتنعت في هذه المسألة، لأن ما ذهب إليه أبو محمد هو قول الضعفاء في صناعة الإعراب، الذين لم يطلعوا على كلام الإمام.
وأجاز بعض المعربين أن يكون: تثير الأرض، في موضع الحال من الضمير المستكن في ذلول تقديره: لا تذل في حال إثارتها، والوجه ما بدأنا به أولاً، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: لا ذلول، بالفتح.
قال الزمخشري بمعنى لا ذلول هناك، أي حيث هي، وهو نفي لذلها، ولأن توصف به فيقال: هي ذلول، ونحوه قولك: مررت بقوم لا بخيل ولا جبان، أي فيهم، أو حيث هم. انتهى كلامه. فعلى ما قدره يكون الخبر محذوفاً، ويكون قوله: تثير الأرض، صفة لاسم لا، وهي منفية من حيث المعنى، ولذلك عطف عليها جملة منفية، وهو قوله: ولا تسقي الحرث. وإذا تقرر هذا، فلا يجوز أن تكون {تثير الأرض ولا تسقي الحرث} خبراً، لأنه كان يتنافر هذا التركيب مع ما قبله، لأن قوله: {قال إنها بقرة} يبقى كلاماً منفلتاً مما بعده، إذ لا تحصل به الإفادة إلا على تقدير أن تكون هذه الجملة معترضة بين الصفة والموصوف، ويكون محط الخبر هو قوله: {مسلَّمة لا شية فيها}، لأنها صفة في اللفظ، وهي الخبر في المعنى، ويكون ذلك الاعتراض من حيث المعنى نافياً ذلة هذه البقر، إذ هي فرد من أفراد الجنس المنفي بلا الذي بنى معها، ولا يجوز أن تقع هذه الجملة أعني لا ذلول، على قراءة السلمي، في موضع الصفة على تقدير أن تثير وما بعدها الخبر، لأنه ليس فيها عائد على الموصوف الذي هو بقرة، إذ العائد الذي في تثير وفي تسقي ضمير اسم لا، ولا يتخيل أن قوله: {لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث} على تقدير أن تثير، وما بعده خبر يكون دالاً على نفي ذلول مع الخبر عن الوجود، لأن ذلك كان يكون غير مطابق لما عليه الوجود، وإنما المعنى نفي ذلك بالنسبة إلى أرضهم وإلى حرثها؛ والألف واللام للعهد. فكما يتعقل انتفاء ذلول مع اعتقاد كون تثير وما بعده صفة، لأنك قيدت الخبر بتقديركه حيث هي، فصلح هذا النفي، كذلك يتعقل انتفاء ذلول مع الخبر عنه، حيث اعتقد أن متعلق الخبرين مخصوص، وهو الأرض والحرث، وكما تقدر ما من ذلول مثيرة ولا ساقية حيث تلك البقرة، كذلك تقدر ما من ذلول تثير أرضهم ولا تسقي حرثهم. فكلاهما نفي قد تخصص، إما بالخبر المحذوف، وإما بتعلق الخبر المثبت.
وقد انتفى وصف البقرة بذلول وما بعدها، إما بكون الجملة صفة والرابط الخبر المحذوف، وإما بكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف، إذ لم تشتمل على رابط يربطها بما قبلها، إذا جعلت تثير خبر ألا يقال أن الرابط هنا هو العموم، إذ البقرة فرد من أفراد اسم الجنس، لأن الرابط بالعموم إنما قيل به في نحو: زيد نعم الرجل، على خلاف في ذلك، ولعل الأصح خلافه. وباب نعم باب شاذ لا يقاس عليه، لو قلت زيد لا رجل في الدار، ومررت برجل لا عاقل في الدار، وأنت تعني الخبر والصفة وتجعل الرابط العموم، لأنك إذا نفيت لا رجل في الدار، انتفى زيد فيها، وإذا قلت: لا عاقل في الدار، انتفى العقل عن المرور به، لم يجز ذلك، فلذلك اخترنا في هذه القراءة على تقدير كون تثير وتسقي خبراً للا ذلول، أن تكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف، وتدل على نفي الإثارة ونفي السقي، من حيث المعنى، لا من حيث كون الجملتين صفة للبقرة.
وأما تمثيل الزمخشري بذلك، بمررت بقوم لا بخيل ولا جبان فيهم، أو حيث هم، فتمثيل صحيح، لأن الجملة الواقعة صفة لقوم ليس الرابط فيها العموم، إنما الرابط هذا الضمير، وكذلك ما قرره هو الرابط فيه الضمير، إذ قدره لا ذلول هناك، أي حيث هي، فهذا الضمير عائد على البقرة، وحصل به الربط كما حصل في تمثيله بقوله: فيهم، أو: حيث هم، فتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله تعالى: {لا ذلول} في قراءة السلميّ يتخرج على وجهين: أحدهما: أن تكون معترضة، وذلك على تقدير حذف خبر، والثاني: أن تكون معترضة، وذلك على تقدير أن تكون خبر لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث. وكانت قراءة الجمهور أولى، لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة، ولأن في قراءة أبي عبد الرحمن


الطمع: تعلق النفس بإدراك مطلوب، تعالقاً قوياً، وهو أشدّ من الرجاء، لأنه لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدّة إرادة، وإذا اشتدّ صار طمعاً، وإذا ضعف كان رغبة ورجاء. يقال: طمع يطمع طمعاً وطماعة وطماعية مخففاً، كطواعية، قال الشاعر:
طماعية أن يغفر الذنب غافره ***
واسم الفاعل: طمع وطامع، ويعدّي بالهمزة، ويقال: طامعه مطامعة، ويقال: طمع بضم الميم، كثر طعمه، وضدّ الطمع: اليأس، قال كثير:
لا خير في الحب وقفاً لا يحركه *** عوارض اليأس أو يرتاجه الطمع
ويقال: امرأة مطماع، أي تطمع ولا تمكن، وقد توسع في الطمع فسمى به رزق الجند، يقال: أمر لهم الأمير بإطماعهم، أي أرزاقهم، وهو من وضع المصدر موضع المفعول. الكلام: هو القول الدال على نسبة إسنادية مقصودة لذاتها، ويطلق أيضاً على الكلمة، ويعبر به أيضاً عن الخط والإشارة، وما يفهم من حال الشيء. وهل يطلق على المعاني القائمة بالذهن التي يعبر عنها بالكلام؟ في ذلك خلاف، وتقاليبه الست موضوعة، وترجع إلى معنى القوة والشدة، وهي: كلم، كمل، لكم، لمك، ملك، مكل. التحريف: إمالة الشيء من حال إلى حال، والحرف: الحد المائل. التحديث: الإخبار عن حادث، ويقال منه يحدث، وأصله من الحدوث، وأصل فعله أن يتعدى إلى واحد بنفسه، وإلى آخر بعن، وإلى ثالث بالباء، فيقال: حدثت زيداً عن بكر بكذا، ثم إنه قد يضمن معنى أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين، فيتعدى إلى ثلاثة، وهي من إلحاق غير سيبويه بأعلم، ولم يذكر سيبويه مما يتعدى إلى ثلاثة غير: أعلم، وأرى ونبأ، وأما حدّث فقد أنشدوا بيت الحارث بن حلزة:
أو منعتم ما تسألون فمن *** حدثتموه له علينا العلاء
وجعلوا حدث فيه متعدية إلى ثلاثة، ويحتمل أن يكون التقدير: حدثتموا عنه. والجملة بعده حال. كما خرج سيبويه قوله: ونبئت عبد الله، أي عن عبد الله، مع احتمال أن يكون ضمن نبئت معنى: أعلمت، لكن رجح عنده حذف حرف الجر على التضمين. وإذا احتمل أن يخرج بيت الحارث على أن يكون مما حذف منه الحرف، لم يكن فيه دليل على إثبات تعدى حدث إلى ثلاثة بنفسه، فينبغي أن لا يذهب إلى ذلك، إلا أن يثبت من لسان العرب. الفتح: القضاء بلغة اليمن، {وهو المفتاح العليم} والأذكار: فتح على الإمام، والظفر: {فقد جاءكم الفتح} قال الكلبي: وبمعنى القصص. قال الكسائي: وبمعنى التبيين. قال الأخفش: وبمعنى المن. وأصل الفتح: خرق الشيء، والسد ضده. المحاجة: من الاحتجاج، وهو القصد للغلبة، حاجه: قصد أن يغلب. والحجة: الكلام المستقيم، مأخوذ من محجة الطريق.
أسر الشيء: أخفاه، وأعلنه: أظهره. الأميّ: الذي لا يقرأ في كتاب ولا يكتب، نسب إلى الأم لأنه ليس من شغل النساء أن يكتبن أو يقرأن في كتاب، أو لأنه بحال ولدته أمه لم ينتقل عنها، أو نسب إلى الأمة، وهي القامة والخلقة، أو إلى الأمة، إذ هي ساذجة قبل أن تعرف المعارف.
الأماني: جمع أمنية، وهي أفعولة، أصله: أمنوية، اجتمت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وهي من منى، إذا قدّر، لأن المتمني يقدر في نفسه ويحزر ما يتمناه، أو من تمنى: أي كذب. قال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به: أهذا شيء رويته أم تمنيته؟ أي اختلقته. وقال عثمان: ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت، أو من تمني إذا تلا، قال تعالى: {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} أي إذا تلا وقرأ، وقال الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليله *** وآخره لاقى حمام المقادر
والتلاوة والكذب راجعان لمعنى التقدير، فالتقدير أصله، قال الشاعر:
ولا تقولن لشيء سوف أفعله *** حتى تبين ما يمنى لك الماني
أي يقدر، وجمعها بتشديد الياء لأنه أفاعيل. وإذا جمع على أفاعل خففت الياء، والأصل التشديد، لأن الياء الأولى في الجمع هي الواو التي كانت في المفرد التي انقلبت فيه ياء، ألا ترى أن جمع أملود أماليد؟ ويل: الويل مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم. وأل مصنوع، ولم يجيء من هذه المادة التي فاؤها واو وعينها ياء إلا: ويل، وويح، وويس، وويب، ولا يثني ولا يجمع. ويقال: ويله، ويجمع على ويلات. قال:
فقالت لك الويلات إنك مرجلي ***
وإذا أضيف ويل، فالأحسن فيه النصب، قال تعالى: {ويلكم لا تفتروا على الله كذباً} وزعم بعض أنه إذا أضيف لا يجوز فيه إلا النصب، وإذا أفردته اختير الرفع، قال: {فويل للذين}، ويجوز النصب، قال:
فويلاً لتيم من سرابيلها الخضر *** والويل: معناه الفضيحة والحسرة، وقال الخليل: الويل: شدة الشر، وقال المفضل وابن عرفة: الويل: الحزن، يقال: تويل الرجل: دعا بالويل، وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه. وقال غيره: الويل: الهلكة، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، وقال الأصمعي: هي كلمة تفجع، وقد يكون ترحماً، ومنه:
ويل أمه مسعر حرب ***
الأيدي: جمع يد، ويد مما حذف منه اللام، ووزنه فعل، وقد صرح بالأصل. قالوا: يدي، وقد أبدلوا من الياء الأولى همزة، قالوا: قطع الله أديه، وأبدلوا منها أيضاً جيماً، قالوا: لا أفعل ذلك جد الدهر، يريدون يد الدهر، وهي حقيقة في الجارحة، مجاز في غيرها. وأما الأيادي فجمع الجمع، وأكثر استعمال الأيادي في النعم، والأصل: الأيدي، استثقلنا الضمة على الياء فحذفت، فسكنت الياء، وقبلها ضمة، فانقلبت واواً، فصار الأيد. وكما قيل في ميقن موقن، ثم إنه لا يوجد في لسانهم واو ساكنة قبلها ضمة في اسم، وإذا أدى القياس إلى ذلك، قلبت تلك الواو ياء وتلك الضمة قبلها كسرة، فصار الأيدي.
وقد تقدم الكلام على اليد عند الكلام على قوله: {لما بين يديها} الكسب: أصله اجتلاب النفع، وقد جاء في اجتلاب الضر، ومنه: بلى من كسب سيئة، والفعل منه يجيء متعدياً إلى واحد، تقول: كسبت مالاً، وإلى اثنين تقول: كسبت زيداً مالاً. وقال ابن الأعرابي؛ يقال: كسب هو نفسه وأكسب غيره، وأنشد:
فأكسبني مالاً وأكسبته حمداً ***
المسّ: الإصابة، والمسّ: الجمع بين الشيئين على نهاية القرب، واللمس: مثله لكن مع الإحساس، وقد يجيء المسّ مع الإحساس. وحقيقة المس واللمس باليد. ونقل من الإحساس إلى المعاني مثل: {أني مسني الشيطان} {يتخبطه الشيطان من المسّ} ومنه سمي الجنون مساً، وقيل: المسّ واللمس والجسّ متقارب، إلا أن الجسّ عام في المحسوسات، والمسّ فيما يخفى ويدق، كنبض العروق، والمسّ واللمس بظاهر البشرة، والمسّ كناية عن النكاح وعن الجنون. المعدود: اسم مفعول من عدّ، بمعنى حسب، والعدد هو الحساب. الإخلاف: عدم الإيفاء بالشيء الموعود. بلى: حرف جواب لا يقع إلا بعد نفي في اللفظ أو المعنى، ومعناها: ردّه، سواء كان مقروناً به أداة الإستفهام، أو لم يكن، وقد وقع جواباً للاستفهام في مثل: هل يستطيع زيد مقاومتي؟ إذا كان منكراً لمقاومة زيد له، لما كان معناه النفي، ومما وقعت فيه جواباً للاستفهام قول الحجاف بن حكيم:
بل سوف نبكيهم بكل مهند *** ونبكي نميراً بالرماح الخواطر
وقعت جواباً للذي قال له، وهو الأخطل:
ألا فاسأل الحجاف هل هو ثائر *** بقتلي أصيبت من نمير بن عامر
وبلى عندنا ثلاثي الوضع، وليس أصله بل، فزيدت عليها الألف خلافاً للكوفيين. السيئة: فيعلة من ساء يسوء مساءة، إذا حزن، وهي تأنيث السيئ، وقد تقدّم الكلام على هذا الوزن عند الكلام على قوله: {أو كصيب} فأغنى عن إعادته.
{أفتطمعون أن يؤمنوا لكم}: ذكروا في سبب نزول هذه الآية أقاويل: أحدها: أنها نزلت في الأنصار، وكانوا حلفاء لليهود، وبينهم جوار ورضاعة، وكانوا يودون لو أسلموا. وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يودون إسلام من بحضرتهم من أبناء اليهود، لأنهم كانوا أهل كتاب وشريعة، وكانوا يغضبون لهم ويلطفون بهم طمعاً في إسلامهم. وقيل: نزلت فيمن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من أبناء السبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام في الطور، فسمعوا كلام الله، فلم يمتثلوا أمره، وحرّفوا القول في أخبارهم لقومهم، وقالوا: سمعناه يقول إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا. وقيل: نزلت في علماء اليهود الذين يحرفون التوراة، فيجعلون الحلال حراماً، والحرام حلالاً، اتباعاً لأهوائهم. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل علينا قصبة المدينة إلا مؤمن».
قال كعب بن الأشرف ووهب بن يهوذا وأشباههما: اذهبوا وتجسسوا أخبار من آمن، وقولوا لهم آمنا، واكفروا إذا رجعتم، فنزلت. وقيل: نزلت في قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين: نحن نؤمن أنه نبي، لكن ليس إلينا، وإنما هو إليكم خاصة، فلما خلوا، قال بعضهم: أتقرون بنبوّته وقد كنا قبل نستفتح به؟ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من علمه. وقيل: نزلت في قوم من اليهود كانوا يسمعون الوحي، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه.
وهذه الأقاويل كلها لا تخرج عن أن الحديث في اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم الذين يصح فيهم الطمع أن يؤمنوا، لأن الطمع إنما يصح في المستقبل، والضمير في {أن يؤمنوا لكم} لليهود. والمعنى: استبعاد إيمان اليهود، إذ قد تقدّم لأسلافهم أفاعيل، وجزى أبناؤهم عليها. فبعيد صدور الإيمان من هؤلاء، فإن قيل: كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين؟ قيل: قال القفال: يحتمل أن يكون المعنى: كيف يؤمن هؤلاء وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمونه من قوم يحرفون عناداً؟ فإنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه، والمقلدون يقبلون ذلك منهم، فلا يلتفتون إلى الحق. وقيل: إياسهم من إيمان فرقة بأعيانهم.
والهمزة في أفتطعمون للاستفهام، وفيها معنى التقرير، كأنه قال: قد طمعتم في إيمان هؤلاء وحالهم ما ذكر. وقيل: فيه ضرب من النكير على الرغبة في إيمان من شواهد امتناعه قائمة. واستبعد إيمانهم، لأنهم كفروا بموسى، مع ما شاهدوا من الخوارق على يديه، ولأنهم ما اعترفوا بالحق، مع علمهم، ولأنهم لا يصلحون للنظر والاستدلال. والخطاب في أفتطعمون، للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. خاطبه بلفظ الجمع تعظيماً له، قاله ابن عباس ومقاتل، أو للمؤمنين، قاله أبو العالية وقتادة، أو للأنصار، قاله النقاش، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أو لجماعة من المؤمنين، أو لجماعة من الأنصار. والفاء بعد الهمزة أصلها التقديم عليها، والتقدير: أفتطعمون، فالفاء للعطف، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام، فقدمت عليها. والزمخشري يزعم أن بين الهمزة والفاء فعل محذوف، ويقر الفاء على حالها، حتى تعطف الجملة بعدها على الجملة المحذوفة قبلها، وهو خلاف مذهب سيبويه، ومحجوج بمواضع لا يمكن تقدير فعل فيها، نحو قوله: {أو من ينشأ في الحلية} {أفمن يعلم أنما أنزل إليك} {أفمن هو قائم} أن يؤمنوا معمول لتطعمون على إسقاط حرف الجر، التقدير: في أن يؤمنوا، فهو في موضع نصب، على مذهب سيبويه، وفي موضع جر، على مذهب الخليل والكسائي. ولكم: متعلق بيؤمنوا، على أن اللام بمعنى الباء، وهو ضعيف، ولام السبب أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم لهم.
{وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله}، الفريق: قيل: الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد والسدّي.
وقيل: جماعة من اليهود كانوا يسمعون الوحي، إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحرفونه، قصد أن يدخلوا في الدين ما ليس فيه، ويحصل التضاد في أحكامه. وقيل: كل من حرف حكماً، أو غيره، كفعلهم في آية الرجم ونحوها. وقيل: هم السبعون الذين سمعوا مع موسى عليه السلام كلام الله، ثم بدلوا بعد ذلك، وقد أنكر أن يكونوا سمعوا كلام الله تعالى. قال ابن الجوزي: أنكر ذلك أهل العلم، منهم: الترمذي، صاحب النوادر، وقال: إنما خص موسى عليه السلام بالكلام وحده. وكلام الله الذي حرفوه، قيل: هو التوراة، حرفوها بتبديل ألفاظ من تلقائهم، وهو قول الجمهور. وقيل: بالتأويل، مع بقاء لفظ التوراة، قاله ابن عباس. وقيل: هو كلام الله الذي سمعوه على الطور. وقيل: ما كانوا يسمعونه من الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ الأعمش: كلم الله، جمع كلمة، وقد يراد بالكلمة: الكلام، فتكون القراءتان بمعنى واحد. وقد يراد المفردات، فيحرفون المفردات، فتتغير المركبات، وإسنادها بتغير المفردات. {ثم يحرّفونه}: التحريف الذي وقع، قيل: في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم وصفوه بغير الوصف الذي هو عليه، حتى لا تقوم عليهم به الحجة. وقيل: في صفته، وفي آية الرجم. {من بعد ما عقلوه} أي من بعد ما ضبطوه وفهموه، ولم تشتبه عليهم صحته. وما مصدرية، أي من بعد عقلهم إياه، والضمير في عقلوه عائد على كلام الله. وقيل: ما موصولة، والضمير عائد عليها، وهو بعيد.
{وهم يعلمون}: ومتعلق العلم محذوف، أي أنهم قد حرفوه، أو ما في تحريفه من العقاب، أو أنه الحق، أو أنهم مبطلون كاذبون. والواو في قوله: {وقد كان فريق}، وفي قوله: {وهم يعلمون}، واو الحال. ويحتمل أن يكون العامل في الحال قوله: {أفتطعمون}؟ ويحتمل أن يكون: {أن يؤمنوا}. فعلى الأول يكون المعنى: أفيكون منكم طمع في إيمان اليهود؟ وأسلافهم من عادتهم تحريف كلام الله، وهم سالكو سننهم ومتبعوهم في تضليلهم، فيكون الحال قيداً في الطمع المستبعد، أي يستبعد الطمع في إيمان هؤلاء وصفتهم هذه. وعلى الثاني يكون المعنى استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء إيمان، وقد كان أسلافهم على ما نص من تحريف كلام الله تعالى. فعلى هذا يكون الحال قيداً في أيمانهم. وعلى كلا التقديرين، فكل منهما، أعني من: أفتطعمون، ومن يؤمنوا، مقيد بهذه الحال من حيث المعنى. وإنما الذي ذكرناه تقتضيه صناعة الإعراب. وبيان التقييد من حيث المعنى أنك إذا قلت: أتطمع أن يتبعك زيد؟ وهو متبع طريقة أبيه، فاستبعاد الطمع مقيد بهذه الحال، ومتعلق الطمع، الذي هو الاتباع المفروض وقوعه، مقيد بهذه الحال. فمحصوله أن وجود هذه الحال لا يجامع الاتباع، ولا يناسب الطمع، بل إنما كان يناسب الطمع ويتوقع الاتباع، مع انتفاء هذه الحال.
وأما العامل في قوله: {وهم يعلمون}، فقوله: {ثم يحرفونه}، أي يقع التحريف منهم بعد تعقله وتفهمه، عالمين بما في تحريفه من شديد العقاب، ومع ذلك فهم يقدمون على ذلك، ويجترئون عليه. والإنكار على العالم أشدّ من الإنكار على الجاهل، لأن عند العالم دواعي الطاعة، لما علم من ثوابها، وتواني المعصية لما علم من عقابها. وذهب بعضهم إلى أن العامل في قوله: {وهم يعلمون}، قوله: {عقلوه}، والظاهر القول الأول، وهو قوله: {يحرفونه}.
{وإذ لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا}: قرأ ابن السميفع: لاقوا، قالوا: على التكثير. ولا يظهر التكثير، إنما هو من فاعل الذي هو بمعنى الفعل المجرّد. فمعنى لاقوا، ومعنى لقوا واحد، وتقدّم شرح مفردات هذه الجملة الشرطية. ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة منبئة عن نوع من قبائح اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاشفة عما أكنوه من النفاق. ويحتمل أن تكون جملة حالية معطوفة على قوله: {وقد كان فريق منهم} الآية، أي كيف يطمع في إيمانهم، وقد كان من أسلافهم من يحرّف كلام الله، وهؤلاء سالكو طريقتهم، وهم في أنفسهم منافقون، يظهرون موافقتكم إذا لقوكم، وأنهم منكم وهم في الباطن كفار. فمن جمع بين هاتين الحالتين، من اقتدائهم بأسلافهم الضلاّل، ومنافقتهم للمؤمنين، لا يطمع في إيمانهم. والذين آمنوا هنا هم: أبو بكر وعمر وجماعة من المؤمنين، قاله جمهور المفسرين. وقال بعضهم: المؤمنون هنا جماعة من اليهود آمنوا وأخلصوا في إيمانهم، والضمير في لقوا الجماعة من اليهود غير معينة باقين على دينهم، أو لجماعة منهم أسلموا ثم نافقوا، أو لليهود الذين أمرهم رؤساؤهم من بني قريظة أن يدخلوا المدينة ويتجسسوا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: ادخلوا المدينة وأظهروا الإيمان، فإنه نهى أن يدخل المدينة إلا مؤمن.
{وإذ خلا بعضهم إلى بعض} أي: وإذا انفرد بعضهم ببعض، أي الذين لم ينافقوا إلى من نافق. وإلى، قيل: بمعنى مع، أي وإذا خلا بعضهم مع بعض، والأجود أن يضمن من خلا معنى فعل يعدّي بإلى، أي انضوى إلى بعض، أو استكان، أو ما أشبهه، لأن تضمين الأفعال أولى من تضمين الحروف. {قالوا}: أي ذلك البعض الخالي ببعضهم. {أتحدّثونهم}: أي قالوا عاتبين عليهم، أتحدّثون المؤمنين؟ {بما فتح الله عليكم}: وما موصولة، والضمير العائد عليها محذوف تقديره: بما فتحه الله عليكم. وقد جوّزا في ما أن تكون نكرة موصوفة، وأن تكون مصدرية، أي بفتح الله عليكم. والأولى الوجه الأول، والذي حدّثوا به هو ما تكلم به جماعة من اليهود من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو العالية وقتادة، أو ما عذب به أسلافهم، قاله السدي.
وقال مجاهد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني قريظة: «يا إخوة الخنازير والقرد» فقال الأحبار لأتباعهم: ما عرف هذا إلا من عندكم. وقال ابن زيد: كانوا إذا سئلوا عن شيء قالوا: في التوراة كذا وكذا، فكره ذلك أحبارهم، ونهوا في الخلوة عنه. فعلى ما قاله أبو العالية يكون الفتح بمعنى الإعلام والإذكار، أي أتحدثونهم بما أعلمكم الله من صفة نبيهم؟ ورواه الضحاك عن ابن عباس. وعلى قول السدي: يكون بمعنى الحكم والقضاء، أي أتحدثونهم بما حكم الله به على أسلافكم وقضاء من تعذيبهم؟ وعلى قول ابن زيد يكون بمعنى: الإنزال، أي أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ وقال الكلبي: المعنى بما قضى الله عليكم، وهو راجع لمعنى الإنزال. وقيل: المعنى بما بين الله لكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وصفته، وشريعته، وما دعاكم إليه من الإيمان به، وأخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه ونصرته. وقيل: المعنى بما منّ الله عليكم من النصر على عدوّكم، ومن تأويل كتابكم.
{ليحاجوكم}: هذه لام كي، والنصب بأن مضمرة بعدها، وهي جائزة الإضمار، إلا إن جاء بعدها لا، فيجب إظهارها. وهي متعلقة بقوله: {أتحدثونهم}، فهي لام جر، وتسمى لام كي، بمعنى أنها للسبب، كما أن كي للسبب. ولا يعنون أنّ النصب بعدها بإضمار كي، وإن كان يصح التصريح بعدها بكي، فتقول: لكي أكرمك، لأن الذي يضمر إنما هو: أن لا: كي، وقد أجاز ابن كيسان والسيرافي أن يكون المضمر بعد هذه اللام كي، أو أن. وذهب الكوفيون إلى أن النصب بعد هذه اللام إنما هو بها نفسها، وأن ما يظهر بعدها من كي وأن، إنما ذلك على سبيل التأكيد. وتحرير الكلام في ذلك مذكور في مبسوطات النحو. وذهب بعض المعربين إلى أن اللام تتعلق بقوله: فتح، وليس بظاهر، لأن المحاجة ليست علة للفتح، إنما المحاجة ناشئة عن التحديث، إلا أن تكون اللام لام الصيرورة عند من يثبت لها هذا المعنى، فيمكن أن يصير المعنى: إن الذي فتح الله عليهم به حدثوا به، فآل أمره إلى أن حاجوهم به، فصار نظير: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزناً} لم يلتقطوه لهذا الأمر، إنما آل أمره إلى ذلك. ومن لم يثبت لام الصيرورة، جعلها لام كي، على تجوّز، لأن الناشئ عن شيء، وإن لم يقصد، كالعلة. ولا فرق بين أن يجعلها متعلقة بقوله: أتحدثونهم، وبين: بما فتح، إلا أن جعلها متعلقة بالأول أقرب وساطة، كأنه قال: أتحدثونهم فيحاجوكم. وعلى الثاني يكون أبعد، إذ يصير المعنى: فتح الله عليكم به، فحدثتموهم به، فحاجوكم. فالأولى جعله لأقرب وساطة، والضمير في {به} عائد إلى ما من قوله: {بما فتح الله}، وبهذا يبعد قول من ذهب إلى أنها مصدرية، لأن المصدرية لا يعود عليها ضمير.
{عند ربكم} معمول لقوله: ليحاجوكم، والمعنى: ليحاجوكم به في الآخرة. فكنى بقوله: {عند ربكم} عن اجتماعهم بهم في الأخرة، كما قال تعالى: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} وقيل: معنى عند ربكم: في ربكم، أي فيكونون أحق به جعل عند بمعنى في. وقيل: هو على حذف مضاف، أي ليحاجوكم به عند ذكر ربكم. وقيل معناه: إنه جعل المحاجة في كتابكم محاجة عند الله، ألا تراك تقول هو في كتاب الله كذا، وهو عند الله كذا، بمعنى واحد؟ وقيل: هو معمول لقوله: {بما فتح الله عليكم عند ربكم}، أي من عند ربكم ليحاجوكم، وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ ميثاقهم بتصديقه. قال ابن أبي الفضل: وهذا القول هو الصحيح، لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدنيا. انتهى. والأولى حمل اللفظ على ظاهره من غير تقديم ولا تأخير، إذا أمكن ذلك، وقد أمكن بجعل قوله: {عند ربكم} على بعض المعاني التي ذكرناها. وأما على ما ذهب إليه هذا الذاهب، فبعيد جداً، لأن ليحاجوكم متعلق بقوله: أتحدثونهم، وعند ربكم متعلق بقوله: بما فتح الله عليكم، فتكون قد فصلت بين قوله: عند ربكم، وبين العامل فيه الذي هو: فتح الله عليكم، بقوله: ليحاجوكم، وهو أجنبي منهما، إذ هو متعلق بقوله: أتحدثونهم على الأظهر، ويبعد أن يجيء هذا التركيب هكذا في فصيح الكلام، فكيف يجيء في كلام الله الذي هو أفصح الكلام؟.
{أفلا تعقلون}: ظاهره أنه مندرج تحت قول من قال: أتحدثونهم بما يكون حجة لهم عليكم؟ أفلا تعقلون فلا تحدثونهم بذلك؟ وقيل: هو خطاب من الله للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن هؤلاء اليهود لا يؤمنون، وهم على هذه الصفات الذميمة، من اتباع أسلافهم المحرّفين كلام الله، والتقليد لهم فيما حرّفوه، وتظاهرهم بالنفاق، وغير ذلك مما نعى عليهم ارتكابه؟.
{أوَ لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون}: هذا توبيخ من الله لهم، أي إذا كان علم الله محيطاً بجميع أفعالهم، وهم عالمون بذلك، فكيف يسوغ لهم أن ينافقوا ويتظاهروا للمؤمنين بما يعلم الله منهم خلافه، فلا يجامع حالة نفاقهم بحالة علمهم بأن الله عالم بذلك والأولى حمل ما يسرون وما يعلنون على العموم، إذ هو ظاهر اللفظ. وقيل: الذي أسرّوه الكفر، والذي أعلنوه الإيمان. وقيل: العداوة والصداقة. وقيل: قولهم لشياطينهم إنا معكم، وقولهم للمؤمنين آمنا. وقيل: صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وتغيير صفته إلى صفة أخرى، حتى لا تقوم عليهم الحجة. وقرأ ابن محيصن: أو لا تعلمون بالتاء، قالوا: فيكون ذلك خطاباً للمؤمنين، وفيه تنبيه لهم على جهلهم بعالم السر والعلانية، ويحتمل أن يكون خطاباً لهم، وفائدته التنبيه على سماع ما يأتي بعده، ثم أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة، إهمالاً لهم، فيكون ذلك من باب الالتفات، ويكون حكمته في الحالتين ما ذكرناه.
وقد تقدم لنا أن مثل {أفلا تعقلون}، {أولا يعلمون}، أن الفاء والواو فيهما للعطف، وأن أصلهما أن يكونا أول الكلام، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام، فقدّمت. وذكرنا طريقة الزمخشري في ذلك، فأغنى عن إعادته. و{أن الله يعلم}: يحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفرد، إذا قلنا: إن يعلمون متعد إلى واحد كعرف، ويحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفعولين، إذا قلنا: أن يعلمون متعد إلى اثنين، كظننت، وهذا على رأي سيبويه. وأما الأخفش، فإنها تسد عنده مسد مفعول واحد، ويجعل الثاني محذوفاً، وقد تقدم لنا ذكر هذا الخلاف، والعائد على ما محذوف تقديره: يسرّونه ويعلنونه. وظاهر هذا الاستفهام أنه تقرير لهم أنهم عالمون بذلك، أي بأن الله يعلم السر والعلانية، أي قد علموا ذلك، فلا يناسبهم النفاق والتكذيب بما يعلمون أنه الحق. وقيل: ذلك تقريع لهم وحث على التفكر، فيعلمون بالتفكر ذلك. وذلك أنهم لما اعترفوا بصحة التوراة، وفيها ما يدل على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لزمهم الاعتراف بالربوبية، ودل على أن المعصية، مع علمهم بها، أقبح.
وفي هذه الآية وما أشبهها دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضي عن المنافقين، مع أن الله أظهره على نفاقهم، وذلك رجاء أن يؤمنوا، فأغضى عنهم، حتى قبل الله منهم من قبل، وأهلك من أهلك. واختلف، هل هذا الحكم باق، أو نسخ؟ فقال قوم: نسخ، لأنه كان يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم، تأليفاً للقلوب. وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم، فلا حاجة إلى التأليف. وقال قوم: هو باق إلى الآن، لأن أهل الكفر أكثر من أهل الإيمان، فيحتاجون إلى زيادة الأنصار وكثرة عددهم، والأول هو الأشهر. وفي قوله: {يعلم ما يسرون وما يعلنون}، حجة على من زعم أن الله لا يعلم الجزئيات، بل يعلم الكليات.
{ومنهم أمّيون}: ظاهر الكلام أنها نزلت في اليهود المذكورين في الآية التي قبل هذه، قاله ابن عباس. وقيل: في المجوس، قاله عليّ بن أبي طالب. وقيل: في اليهود والمنافقين. وقال عكرمة والضحاك: في نصارى العرب، فإنهم كانوا لا يحسنون الكتابة. وقيل: في قوم من أهل الكتاب، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها، فصاروا أمّيين. وقيل: في قوم لم يؤمنوا بكتاب ولا برسول، فكتبوا كتابهم وقالوا: هذا من عند الله، فسموا: أمّيين، لجحودهم الكتاب، فصاروا بمنزلة من لا يحسن شيئاً. والقول الأول هو الأظهر، لأن سياق الكلام إنما هو مع اليهود، فالضمير لهم.
ومناسبة ارتباط هذه الآية: أنه لما بين أمر الفرقة الضالة التي حرفت كتاب الله، وهم قد عقلوه وعلموا بسوء مرتكبهم، ثم بين أمر الفرقة الثانية، المنافقين، وأمر الثالثة: المجادلة، أخذ يبين أمر الفرقة الرابعة، وهي: العامة التي طريقها التقليد، وقبول ما يقول لهم.
قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما ومن هؤلاء اليهود المذكورون، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم، أي أنهم لا يطمع في إيمانهم. وقرأ أبو حياة وابن أبي عبلة: أميون، بتخفيف الميم، وقد تقدم أن الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، أي لا يحسنون الكتب، فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها. و{لا يعلمون الكتاب}: جملة في موضع الصفة، والكتاب هو التوراة.
{إلا أمانّي}: استثناء منقطع، لأن الأماني ليست من جنس الكتاب، ولا مندرجة تحت مدلوله، وهو أحد قسمي الاستثناء المنقطع، وهو الذي يتوجه عليه العامل. ألا ترى أنه لو قيل لا يعلمون إلا أمانيّ لكان مستقيماً؟ وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه وجهان، أحدهما: النصب على الاستثناء، وهي لغة أهل الحجاز والوجه الثاني: الاتباع على البدل بشرط التأخر، وهي لغة تميم. فنصب أماني من الوجهين، والمعنى: إلا ما هم عليه من أمانيهم، وأمانيهم أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، أو ما يمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، أو لا يعلمون إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فنقلوها على التقليد، قاله ابن عباس ومجاهد، واختاره الفراء. وقيل: معناه إلا تلاوة، أي لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم. قال أبو مسلم: حمله على تمني القلب أولى، لقوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أ نصارى تلك أمانيهم} وقرأ الجمهور: أماني، بالتشديد. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن جماز، عن نافع وهارون، عن أبي عمرو: أماني بالتخفيف، جمعه على أفاعل، ولم يعتد بحرف المد الذي في المفرد. قال أبو حاتم: كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد، فلك فيه التشديد والتخفيف مثل: أثافي، وأغاني، وأماني، ونحوه. قال الأخفش هذا، كما يقال في جمع مفتاح مفاتيح ومفاتح، وقال النحاس: الحذف في المعتل أكثر، كما قال:
وهل رجع التسليم أو يكشف العمى *** ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع
{وإن هم إلا يظنون}، إن هنا: هي النافية، بمعنى ما، وهم: مرفوع بالابتداء، وإلا يظنون: في موضع الخبر، وهو من الاستثناء المفرغ. وإذا كانت إن نافية، فدخلت على المبتدأ والخبر، لم يعمل عمل ما الحجازية، وقد أجاز ذلك بعضهم، ومن أجاز شرط نفي الخبر وتأخيره، والصحيح أنه لا يجوز، لأنه لم يحفظ من ذلك إلا بيت نادر وهو:
إن هو مستولياً على أحد *** إلا على أضعف المجانين
وقد نسب السهيلي وغيره إلى سيبويه جواز إعمالها إعمال ما، وليس في كتابه نص على ذلك.
ومعنى يظنون، قال مجاهد: يكذبون، وقال آخرون: يتحدثون، وقال آخرون: يشكون، وهو التردد بين أمرين، لا يترجح أحدهما على الناظر فيهما، والأولى حمله على موضوعه الأصلي، وهو الترجيح لأحد الأمرين على الآخر، إذ لا يمكن حمله على اليقين، ولا يلزم من الترجيح عندهم أن يكون ترجيحاً في نفس الأمر. وقال مقاتل: معناه ليسوا على يقين، إن كذب الرؤساء، أو صدقوا، بايعوهم. انتهى كلامه. وأتى بالخبر فعلاً مضارعاً، ولم يأت باسم الفاعل، لأنه يدل على حدوث الظن وتجدده لهم شيئاً فشيئاً، فليسوا ثابتين على ظن واحد، بل يتجدد لهم ظنون دالة على اضطراب عقائدهم واختلاف أهوائهم. وفي هذه الآية دليل على أن المعارف كسببية، وعلى بطلان التقليد، وعلى أن المغتر بإضلال المضل مذموم، وعلى أن الاكتفاء بالظن في الأصول غير جائز، وعلى أن القول بغير دليل باطل، وعلى أن ما تساوي وجوده وعدمه لا يجوز المصير إلى أحدهما إلا بدليل سمعي، وتمسك بها أيضاً منكرو القياس، وخبر الواحد، لأنهما لا يفيدان العلم.
{فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} الآية. قيل: نزلت في الذين غيروا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدّلوا نعته، فجعلوه آدم سبطاً طويلاً، وكان في كتابهم على الصفة التي هو بها، فقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة هذا النبي الذي يبعث في آخر الزمان، ليس يشبه نعت هذا، وكانت الأحبار من اليهود يخافون أن يذهب مأكلتهم بإبقاء صفة النبي صلى الله عليه وسلم على حالها، فلذلك غيروها. وقيل: خاف ملوكهم على ملكهم، إذا آمن الناس كلهم، فجاءوا إلى أحبار اليهود فجعلوا لهم عليهم وضائع ومآكل، وكشطوها من التوراة، وكتبوا بأيديهم كتاباً، وحللوا فيه ما اختاروا، وحرموا ما اختاروا. وقيل: نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي، ولم يتبعوا كتاباً، بل كتبوا بأيديهم كتاباً، وحللوا فيه ما اختاروا، وحرموا ما اختاروا، وقالوا: هذا من عند الله. وقال أبو مالك: نزلت في عبد الله بن سعد بن سرح، كاتب النبي صلى الله عليه وسلم، كان يغيره فارتد. وقد تقدم شرح ويل عند الكلام على المفردات، وذكر عن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جبل من نار جهنم، وذكر أن أبا سعيد روى: أنه واد في جهنم بين جبلين، يهوي فيه الهاوي، وذكر أن سفيان وعطاء بن يسار رويا أنه واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار. وحكى الزهراوي وجماعة: أنه باب من أبواب جهنم. وقيل: هو صهريج في جهنم. وقيل، عن سعيد بن جبير، إنه واد في جهنم، لو سجرت فيه جبال الدنيا لانماعت من حره، ولو صح في تفسير الويل شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجب المصير إليه.
وقد تكلمت العرب في نظمها ونثرها بلفظة الويل قبل أن يجيء القرآن، ولم تطلقه على شيء من هذه التفاسير، وإنما مدلوله ما فسره أهل اللغة، وهو نكرة فيها معنى الدعاء، فلذلك جاز الابتداء بها، إذ الدعاء أحد المسوّغات لجواز الابتداء بالنكرة، وهي تقارب ثلاثين مسوّغاً، وذكرناها في كتاب (منهج المسالك) من تأليفنا.
والكتابة معروفة، ويقال أول من كتب بالقلم إدريس، وقيل: آدم. والكتاب هنا قيل: كتبوا أشياء اختلقوها، وأحكاماً بدلوها من التوراة حتى استقر حكماً بينهم. وقيل: كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنوها في سفهائهم، وفي العرب، وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل، وصار سفهاؤهم، ومن يأتيهم من مشركي العرب، إذا سألوهم عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: ما هو هذا الموصوف عندنا في التوراة المبدلة المغيرة، ويقرأُوها عليهم ويقولون لهم: هذه التوراة التي أنزلت من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً. بأيديهم: تأكيد يرفع توهم المجاز، لأن قولك: زيد يكتب، ظاهره أنه يباشر الكتابة، ويحتمل أن ينسب إليه على طريقة المجاز، ويكون آمراً بذلك، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب، وإنما المعنى: أمر بالكتابة، لأن الله تعالى قد أخبر أنه النبي الأمي، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب. وقد قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمنك إذاً لارتاب المبطلون} ونظير هذا التأكيد {يطير بجناحيه}، {ويقولون بأفواههم}، وقوله:
نظرت فلم تنظر بعينيك منظراً ***
فهذه كلها أتى بها لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ، ولرفع المجاز الذي كان يحتمله. وفي هذا التأكيد أيضاً تقبيح لفعلهم، إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم، واجترحوه بأيديهم. وقال ابن السرّاح: ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم، ومن عند أنفسهم، من غير أن ينزل عليهم. انتهى كلامه. ولا يدل على ما ذكر، لأن مباشرة الشيء باليد لا تقتضي الاختلاق، ولا بد من تقدير حال محذوفة يدل عليها ما بعدها، التقدير: يكتبون الكتاب بأيديهم محرّفاً، أو نحوه مما يدل على هذا المعنى لقوله بعد ثم: {يقولون هذا من عند الله}، إذ لا إنكار على من يباشر الكتاب بيده إلا إذا وضعه غير موضعه، فلذلك قدرنا هذه الحال.
{ثم يقولون}: أي لأتباعهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرئ لهم، ومعمول القول هذه الجملة التي هي: {هذا من عند الله ليشتروا}، علة في القول، وهي لام كي، وقد تقدم الكلام عليها قبل. وهي مكسورة لأنها حرف جر، فيتعلق بيقولون. وقد أبعد من ذهب إلى أنها متعلقة بالاستقرار، وبنو العنبر يفتحون لام كي، قال مكي في إعراب القرآن له.
{به ثمناً قليلاً}، به: متعلق بقوله: ليشتروا، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم: {هذا من عند الله}، وهو المكتوب المحرّف. وتقدّم القول في الاشتراء في قوله: {اشتروا الضلالة بالهدى} والثمن هنا: هو عرض الدنيا، أو الرّشا والمآكل التي كانت لهم، ووصف بالقلة لكونه فانياً، أو حراماً، أو حقيراً، أو لا يوازنه شيء، لا ثمن، ولا مثمن. وقد جمعوا في هذا الفعل أنهم ضلوا وأضلوا وكذبوا على الله، وضموا إلى ذلك حب الدنيا. وهذا الوعيد مرتب على كتابة الكتاب المحرّف، وعلى إسناده إلى الله تعالى. وكلاهما منكر، والجمع بينهما أنكر. وهذا يدل على تحريم أخذ المال على الباطل، وإن كان برضا المعطي.
{فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل مما يكسبون}: كتابتهم مقدمة، نتيجتها كسب المال الحرام، فلذلك كرر الويل في كل واحد منهما، لئلا يتوهم أن الوعيد هو على المجموع فقط. فكل واحد من هذين متوعد عليه بالهلاك. وظاهر الكسب هو ما أخذوه على تحريفهم الكتاب من الحرام، وهو الأليق بمساق الآية. وقيل: المراد بما يكسبون الأعمال السيئة، فيحتاج في كلا القولين إلى اختصاص، لأن ما يكسبون عام، والأولى أن يقيد بما ذكرناه.
{وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} سبب نزول هذه الآية: أنهم زعموا أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، قالوا: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم، فتذهب جهنم وتهلك. روي ذلك عن ابن عباس. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اليهود من أهل النار» قالوا: نحن ثم تخلفوننا أنتم، فقال: «كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم» فنزلت هذه الآية. وروي عنهم أنهم يعذبون سبعة أيام، عدد أيام الدنيا، سبعة آلاف لكل ألف يوم، ثم ينقطع العذاب. وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوماً، عدد عبادتهم العجل، وقيل: أربعين يوماً تحلة القسم. وقيل: أربعين ليلة، ثم ينادي: اخرجوا كل مختون من بني إسرائيل، فنزلت هذه الآية، والضمير في: وقالوا، عائد على الذين يكتبون الكتاب. جمعوا، إلى تبديل كتاب الله وتحريفه، وأخذهم به المال الحرام، وكذبهم على أنه من عند الله، الإخبار بالكذب البحت عن مدة إقامتهم في النار. وقد تقدم أن المس هو الإصابة، أي لن تصيبنا النار إلا أياماً، استثناء مفرّغ، أي لن تمسنا النار أبداً إلا أياماً معدودة، وقد تقدم ذكر العدد في الأيام بأنها سبعة أو أربعون. وقيل: أراد بقوله: معدودة، أي قلائل يحصرها العدّ، لا أنها معينة العد في نفسه.
ثم أخذ في رد هذه الدعوى والأخبار الكاذبة فقال: {قل أتخذتم عند الله عهداً} أي مثل هذا الإخبار الجزم لا يكون إلا ممن اتخذ عند الله عهداً بذلك، وأنتم لم تتخذوا به عهداً، فهو كذب وافتراء.
وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم بهذا الاستفهام الذي بدل على إنكار ما قالوه. وهمزة الوصل من اتخذ، انحذفت لأجل همزة الاستفهام، ومن سهل بنقل حركتها على اللام وحذفها قال: قل اتخذتم، بفتح اللام، لأن الهمزة كانت مفتوحة. وعند الله: ظرف منصوب باتخذتم، وهي هنا تتعدى لواحد، ويحتمل أن تتعدى إلى اثنين، فيكون الثاني الظرف، فيتعلق بمحذوف، والعهد هنا: بالميثاق والموعد، وقال ابن عباس معناه: هل قلتم لا إله إلا الله، وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار؟ فعلى التأويل الأول المعنى: هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون؟ وعلى الثاني: هل أسلفتم عند الله أعمالاً توجب ما تدعون؟.
{فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون}: هذه الجملة جواب الاستفهام الذي ضمن معنى الشرط، كقولك: أيقصدنا زيد؟ فلن نجيب من برنا. وقد تقدم الخلاف في جواب هذه الأشياء، هل ذلك بطريق التضمين أي يضمن الاستفهام والتمني والأمر والنهي إلى سائر باقيها معنى الشرط؟ أم يكون الشرط محذوفاً بعدها؟ ولذلك قال الزمخشري: فلن يخلف متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عنده عهداً فلن يخلف الله عهده، كأنه اختار القول الثاني من أن الشرط مقدر بعد هذه الأشياء. وقال ابن عطية: {فلن يخلف الله عهده}، اعتراض في أثناء الكلام، كأنه يريد أن قوله: {أم تقولون} معادل لقوله: {قل أتخذتم عند الله عهداً}، فصارت هذه الجملة، بين هاتين اللتين وقع بينهما التعادل، جملة اعتراضية، فلا يكون لها موضع من الإعراب، وكأنه يقول: أي هذين واقع؟ أإتخاذكم العهد عند الله؟ أم قولكم على الله ما لا تعلمون؟ وأخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير، وإن كان قد علم وقوع أحدهما، وهو قولهم: {على الله ما لا يعلمون}، ونظيره: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} وقد علم أيهما على هدى وأيهما هو في ضلال. وقيل: أم هنا منقطعة فيتقدر ببل والهمزة، كأنه قال: بل أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ وهو استفهام إنكار، لأنه قد وقع منهم قولهم: على الله ما لا يعلمون، فأنكروا عليهم صدور هذا منهم. وفي قوله: {فلن يخلف الله عهده} دليل على أن الله لا يخلف وعده. واختلف في الوعيد، فذهب الجمهور إلى أنه لا يخلفه، كما لا يخلف وعده. وذهب قوم إلى جواز إخلاف إيعاده، وقالوا: خلاف الوعد قبيح، وإخلاف الوعيد حسن، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين.
{بلى}: حرف جواب يثبت به ما بعد النفي، فإذا قلت: ما قام زيد، فقلت: نعم، كان تصديقاً في نفي قيام زيد.
وإذا قلت: بلى، كان نقضاً لذلك النفي. فلما قالوا: {لن تمسنا النار}، أجيبوا بقوله: بلى، ومعناها: تمسكم النار. والمعنى على التأبيد، وبين ذلك بالخلود. {من كسب سيئة} من: يحتمل أن تكون شرطية، ويحتمل أن تكون موصولة، والمسوّغات لجواز دخول الفاء في الخبر، إذا كان المبتدأ موصولاً، موجودة هنا، ويحسنه المجيء في قسيمة بالذين، وهو موصول. والسيئة: الكفر والشرك، قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: الموجبة للنار، قاله السدي، وعليه تفسير من فسر السيئة بالكبائر، لأنها هي التي توجب النار، أي يستحق فاعلها النار إن لم تغفر له.
{وأحاطت به خطيئته}: قرأ الجمهور بالإفراد، ونافع: خطيئاته جمع سلامة، وبعض القراء: خطاياه جمع تكسير، والمعنى أنها أخذته من جميع نواحيه. ومعنى الإحاطة به أنه يوافي على الكفر والإشراك، هذا إذا فسرت الخطيئة بالشرك. ومن فسرها بالكبيرة، فمعنى الإحاطة به أن يموت وهو مصر عليها، فيكون الخلود على القول الأول المراد به الإقامة، لا إلى انتهاء. وعلى القول الثاني المراد به الإقامة دهراً طويلاً، إذ مآله إلى الخروج من النار. قال الكلبي: أوثقته ذنوبه. وقال ابن عباس: أحبطت حسناته. وقال مجاهد: غشيت قلبه. وقال مقاتل: أصرّ عليها. وقال الربيع: مات على الشرك. قال الحسن: بكل ما توعد الله عليه بالنار فهو الخطيئة المحيطة. ومن، كما تقدم، لها لفظ ومعنى، فحمل أولاً على اللفظ، فقال: من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته، وحمل ثانياً على المعنى، وهو قوله: {فأولئك}، إلى آخره. وأفرد سيئة لأنه كنى به عن مفرد، وهو الشرك. ومن أفرد الخطيئة أراد بها الجنس ومقابلة السيئة، لأن السيئة مفردة، ومن جمعها فلأن الكبائر كثيرة، فراعى المعنى وطابق به اللفظ. وذهب قوم إلى أن السيئة والخطيئة واحدة، وأن الخطيئة وصف للسيئة. وفرق بعضهم بينهما فقال: السيئة الكفر، والخطيئة ما دون الكفر من المعاصي، قاله مجاهد وأبو وائل والربيع بن أنس. وقيل: إن الخطيئة الشرك، والسيئة هنا ما دون الشرك من المعاصي. قال الزمخشري: وأحاطت به خطيئته تلك، واستولت عليه، كما يحيط العدو، ولم ينقص عنها بالتوبة. انتهى كلامه. وهذا من دسائسه التي ضمنها كتابه، إذ اعتقاد المعتزلة أن من أتى كبيرة، ولم يتب منها، ومات، كان خالداً في النار.
وفي قوله: {أصحاب النار هم فيها خالدون}: إشارة إلى أن المراد: الكفار، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون» وقد رتب كونهم أصحاب النار على وجود أمرين: أحدهما، كسب السيئة، والآخر: إحاطة الخطيئة. وما رتب على وجود شرطين لا يترتب على وجود أحدهما، فدل ذلك على أن من لم يكسب سيئة، وهي الشرك وإن أحاطت به خطيئته، وهي الكبائر، لا يكون من أصحاب النار، ولا ممن يخلد فيها.
ويعني بأصحاب النار: الذين هم أهلها حقيقة، لا من دخلها ثم خرج منها.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم خالدون}: لما ذكر أهل النار، وما أعد لهم من الهلاك: أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان، وما أعد لهم في الخلود في الجنان. والمراد بالذين آمنوا: أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، ومؤمنو الأمم قبله، قاله ابن عباس وغيره، وهو ظاهر اللفظ، وقال ابن زيد: هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمّته، وقلّ ما ذكر في القرآن آية في الوعيد، إلا وذكرت آية في الوعد. وفائدة ذلك ظهور عدله تعالى، واعتدال رجاء المؤمن وخوفه، وكمال رحمته بوعده وحكمته بوعيده.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة استبعاد طمع المؤمنين في إيمان من سبق من آبائه التشريف بسماع كلام الله، ثم مقابلة ذلك بعظيم التحريف، هذا على علم منهم بقبيح ما ارتكبوه. وهؤلاء المطموع في إيمانهم هم أبناء أولئك المحرفين، فهم على طريقة آبائهم في الكفر، ثم قد انطووا من حيث السريرة على مداجاة المؤمنين، بحيث إذا لقوهم أفهموهم أنهم مؤمنون، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، أنكروا عليهم ما يتكلمون به مع المؤمنين من إخبار بشيء مما في كتبهم، وذلك مخافة أن يحتج المؤمنون عليهم بما في كتابهم، ثم أنكر تعالى عليهم ذلك بأنهم قد علموا أن الله يعلم سرّهم ونجواهم، فلا يناسب ذلك إلا الانقياد إلى كتاب الله، والإخبار بما فيه، واتباع ما تضمنه من الأمر، باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بما يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، ولكنهم كفروا عناداً وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً.
ثم لما ذكر حال هؤلاء الذين هم من أهل العلم، ولم ينتفعوا بعلمهم، ذكر أيضاً مقلدتهم وعوامّهم، وأنهم لا يعلمون من الكتاب إلا ألفاظاً مسموعة، وأن طريقهم في أصول دياناتهم إنما هو حسن ظنهم بعلمائهم المحرّفين المبدّلين. ثم توعد الله تعالى بالهلاك والحسرة، من حرّف كلام الله وادّعى أنه من عند الله، لتحصيل غرض من الدنيا تافه نزر لا يبقي، فباع باقياً بفان.
ثم كرّر الوعيد على ما فعلوه، ثم أخبر عنهم بما صدر عنهم من الكذب البحت، بأن لبثهم في النار أياماً معدودة، وأن ذلك إخبار ليس صادراً عن عهد اتخذوه عند الله، بل قول على الله بما لا علم لهم به، ثم ردّ عليهم دعواهم تلك بقوله: {بلى}، ثم قسم الناس إلى قسمين كافر، وهو صاحب النار، ومؤمن وهو صاحب الجنة، وأنهم اندرجوا تحت قسم الكافر، لأنهم كسبوا السيئات، وأحاطت بهم الخطيئات، وناهيك ما اقتص الله فيهم من أول السورة إلى هنا، وما يقص بعد ذلك مما ارتكبوه من الكفر والمخالفات.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11